هل كان المتلقي للقصة القصيرة السعودية مؤهلاً لمناوشة هذا النوع من النصوص الحداثية والاشتباك معها للمساهمة في صناعتها؟ كلما حاولنا تحديد معالم الخطاب التنويري في المملكة العربية السعودية فإننا نقع في شراك مقياس الانتشار والتأثير، وهذه في اعتقادي معضلة الرمز المستخدم في تعيين نوعية الخطاب الذي يهدف إلى التغيير والدفع الأمامي للمجتمعات. في استخدامنا لصورة النور مجازاً نجد أن رمزيته توجب التوافق معه في صفتي الإشعاع والسريان، ومن هنا تنشأ إشكالية تقييم الخطاب في حد ذاته ومن ثم إجهاضه ووصمه بالفشل، إذ كيف يكون التنوير تنويراً إذا لم يشع ويسري أي لم يمتد ضوئه إلى مساحات واسعة من العقول ليحدث فيها فعل التغيير؟
والسؤال الذي يفترض أن نواجهه لنضع له جواباً حاسماً هو: هل ينتقص غياب الفعل التنويري من شأن الخطاب التنويري؟ أين تقع آلية التفعيل؟ وهل يستدعي القول فعلاً بشكل حتمي؟
وعل اعتبار أن الخطاب له حيل ومداخل وطرق وأساليب، أي أن الخطاب المباشر لا يأتي بالنتائج المرجوة، لذا فإن الخطاب الصادم وهو خطاب مباشر لا مهاودة فيه، قد يأتي بنتائج محبطة فينفر من المشروع المطروح ويدفع بالحماس في اتجاه معاكس.
لا شك أن القصة القصيرة حين دخلت إلى الساحة الثقافية المحلية كانت مكتملة النمو، لكنها كانت أيضاً في طور النمو. مثل الكمبيوتر وغيره من التقنيات التي لم نخترعها، لكننا استهلكناها ونحن نراقب تطورها السريع، فإن القصة القصيرة أقبلت والتطور السريع يكتنفها، وعلى الرغم من حداثة ظهورها في السعودية إلا أن كتابها قد تابعوا بشغف كبير عمليات نموها المتصلة وبدءوا في التقاط ملامح الرؤية التجريبية فخرجوا بالقصة المحلية عن مفهومها التقليدي الذي ألفته البدايات القصصية الأولى، وتحرروا من عناصرها السردية فاجترحوا أبنية جديدة واعتمدوا التداعيات الذهنية المتوترة كأسلوب للسرد ومزجوا الحدث الواقعي بالحلمي. خلال وقت قصير أصبحت القصة أكثر تعقيداً خاصة بعد انفتاحها على التجريب اللغوي لمواجهة مآزق التعبير عن دواخل النفس بطبقاتها السحيقة فأنتجت ما يسميه الزهراني: (اللغة الحلمية الهذيانية) (الزهراني، موسوعة، 20).
حدثت كل هذه القفزات التغييرية في وقت قياسي جعل (الجيل يقاس بعشر سنوات وليس بثلاثين سنة) (الحازمي، قوافل، 113). يقول الشنطي إن (من أهم الظواهر التي تميزت بها القصة القصيرة المحلية انتقالها السريع من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التجريب، فقد استغرقت المرحلة الأولى وقتاً طويلاً بينما لم تحظ القصة بهذه الفرصة إذ طغت الموجة التجريبية سريعاً على الأعمال الأدبية)(آفاق، 22). إذاً شهدت القصة نقلة نوعية رمت بها في معمعة التحديث قبل أن تستقر أصولها في أذهان المتلقين فلم يستوعبوا هذا التبدل السريع الذي زعزع خبراتهم القرائية في تناول شكل فني جديد (لم يكن معروف محلياً). هذه الانعطافة في الشكل القصصي وتقنياته شكلت مفصلاً واضحاً في تحجيم العلاقة بين الكاتب الذي فكك قبل أن يربط، والقارئ الذي (لم يكن مهيأ لهذا اللون من الأدب بعد) (سباعي عثمان: الوجه الآخر من الأشياء). لذلك فقد كان الإنتاج مبهراً لأنه تدفق بوفرة وبدون مقدمات فتلقته عيون اعتادت العتمة، مثل بطل (الحفلة) لعبد الله باخشوين الذي كان يسير بخطى حذرة في ممر شحيح الضوء، حتى إذا دخل الغرفة فاجأه النور:(كانت الإضاءة قوية إلى الحد الذي جعله يضع يده على عينيه ويسير عدة خطوات داخل الغرفة وهو مغمض العينين... فتح عينيه ببطء أول الأمر ثم عاد وأغلقهما عندما بهره الضوء الحاد. احتاج لوقت طويل حتى تعتاد عيناه عليه. في البدء بدا كل شيء ضبابياً خابياً. اشتعل الضوء وهجاً ونجوما من عينيه. سال الدمع وازدادت غشاوة الرؤية).
قبل أن يستوي عود القصة ويألفها متلقيها اختفت ملامحها وتوالت مراحلها تباعاً فراكمت القصة الحديثة إنتاجاً قوياً تخطى عمرها الزمني القصير، لذا فإن المتتبع لتطور القصة القصيرة يفاجأ بمرحلة محروقة لم يتم هضمها أحدثت ضبابية في الرؤية لدى متلقيها الذي كان بحاجة إلى وقت كاف لامتصاص تياراتها وأساليبها. هل كان عدم تكافؤ السباق بين الكاتب والحركة الثقافية في مجتمعه سبباً في(ضعف مقروئية) القصة القصيرة؟ هل جازفت القصة بقدرتها علي التواصل مع قارئها وعطلت دورها الطليعي التنويري حين نهجت التجريب وقصدت التحديث؟ ينظر الكاتب خلفه فيجد أنه بالفعل منعزل عن السياق العام لثقافته، فيعود أدراجه إلى الخلف ليمسك بيد قرائه ويشدهم معه. يقول عبد العزيز المشري: (كنت شديد الاهتمام بالقارئ الذي وجدته في غربة عن نصوصي لغة ومضموناً، فساءني ذلك، وخلق في داخلي قلق على هيئة سؤال كبير، لماذا تكتب ولمن). فيصر على التواصل معه ويتحرك ليخلق الوعي في القارئ (دون افتراضه فيه أولاً، ثم الارتقاء به نحو خلق ذائقة مغايرة لما ألف عليه من تقليد، وهذه الموازنة تطلبت من قلمي عذاباً.. لأصل إلى القارئ المتآلف مع لغة المباشرة والطرح السطحي..) (قوافل، 139).
لكن كتاب القصة القصيرة لا ينظرون إلى الوراء كما فعل عبد العزيز المشري سابقا ليأخذ بيد قارئه ويقود خطاه، بل نجدهم يوغلون في التجريب فينقلبون ضد كل تنظيم يحاول تقييدهم داخل أطر جاهزة ويعتمدون أساليب القص المستحدثة التي نسفوا بها القصة التقليدية وعناصرها البنائية. يقول محمد الشنطي: (إن القصة القصيرة من أكثر الفنون استعصاء على التنظير والتأطير الشكليين، إلى الحد الذي أدى إلى شيوع القول بأن كل قصة هي تجربة جديدة في التكنيك)، فها هو تركي العسيري في قصة (شريفة الأحول تهرب) يقوم بتحطيم قواعد المألوف لتحريك المتلقي باتجاه وعي جديد وذلك بتقديم نفسه ككاتب قصة يعرفنا ببطلة قصته على أنها شخصية مختلفة ركّبها خياله هو حتى كبرت عن حدود قصته وهربت فلا يجد قصة يكتبها بلا بطلة. أما قصة محمد علوان (الطيور الزرقاء) فقد غلب عليها النزوع الشعري ويكاد ينتظم العبارات إيقاع وقافية:
كان اسمها زينة.. مليحة اليدين والوجه والقدمين.. لكنها حزينة.. تلبس مثلما يلبسون.. ثيابهم سوداء: يا سماء.. أمطري حجارة وشوكا.. تصيح في رجاء.. فينحني، تقول : ماء.. ويجلب الأمل ويرفع النظر.. يهمس: يا سماء!
لم يتردد كتاب القصة القصيرة في زحزحة أساساتها التقليدية في محاولة لتصوير انعكاس توتراتهم الداخلية على الصياغات اللغوية وإيقاعاتها السريعة التي تتشابك فيها سلسلة من الجمل المتلاحقة والمنقطعة عن سياقاتها الموقفية. في تكثيف لغوي مذهل تلهث الخواطر وهي تتتابع في جمل مبتورة.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712»ثم أرسلها إلى الكود 82244