ظهرت خلال السنوات الخمس الماضية أسماءٌ نسائية في فضاء الرواية الخليجية. ومن تلك الروايات التي يُمكن أن يُكملها المرءُ وتلتصق أحداثها في وجدانه ومكونات فِكرهِ، ومنها ما يُسبب للمرءِ إرباكاً فكرياً وحيرة نفسية، فلا يُكمل نصفَ الرواية، بل يودعها المكتبة أو يَهبها لصديق! على فكرة أي كتاب تهبهُ لصديق على أمل أن يعود إليك فإنه لن يعود!
ويلاحظ القارئ المُتمعن في بعض هذه الروايات مجموعةً من الملاحظات التي لا تختص بالمعاني أو الأهداف التي تستتر وراءها تلك الروايات، ونعني بذلك أسس ومكونات الرواية ذاتها.
فنحن ندرك أن مكونات الرواية هي (السرد، الحوار، الحدث، الشخصية، الزمن، المكان) ويضيف المتخصصون مُكوناً آخر هو المتلقي الذي يشكل هو الآخر بُعداً أو مُكوناً مهماً من مكونات الرواية! ولكل من تلك المكونات خصوصية وقوالب محددة تفرضها طبيعة الرواية! فالزمن (يكون الماضي والحاضر والمستقبل) في الزمن أيضاً محددات زمنية مثل: الخلاصة، وتعنى بسرد أحداث مختزلة، والاستراحة: وهي الوقفات المتعمدة من الراوي بين الحين والآخر ليطرح الوصف أو أي شيء آخر يراه متسقاً مع الموقف الروائي. والقطع: وهو السماح بإلغاء بعض التفاصيل رغبة في تحقيق سرعة عرض الوقائع. (المكان في الرواية البحرينية - فهد حسين).
والمكان كذلك، له خصوصية وملامح قد لا يلتفت إليها العديدُ من الروائيين الجُدد. فنجد أحياناً وصفاً مُختزلاً لمكانِ يحتاج إلى الكثير من التفاصيل التي تضفي بهجة أو ألماً أو إثارة على المتلقي. (فالمكان ليس مُسطحاً أملس، أو بمعنى آخر ليس محايداً أو عارياً من أية دلالة محددة؛ إن المكان يساهم في خلق المعنى). (جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية - د. عبدالحميد المحادين).
والمكان يختلف ويتنوع باختلاف الرواية. فهنالك المكان الواقعي، والتخيلي الذي لا وجود له إلا في النص، أو عقل الروائي، وهنالك المكان الميتافيزيقي. كما يتنوع المكان باختلاف الطبقة الاجتماعية وملامح حياتها، ونوعية السكن، بين الريف أو الصحراء والمدينة، وبين مدينة عربية وأخرى أوروبية أو أمريكية أو أسيوية.
ويطرح النقادُ قضية (حرية الراوي) فيما يفعل!؟ ويقول (بيرسي لوبوك): (الكاتب الروائي يعمل يده في المشهد ويجرّده من شظايا كبيرة يميناً و شمالاً، أشياء بالية منذ البداية، بمعنى آخر إن الكاتب الروائي يختار ما يريد، واعتماداً على هذه الأمجاد يشرع في عمله وخياله في أوج قوته، يكشف عن أهميتها متحرراً من أي التزام! (صنعة الرواية - بيرسي لوبوك - ترجمة عبدالستار جودة).
والواقع أن بعضَ الروائيين والروائيات يهملون مناطقَ هامة في الرواية بحكم تعاطفهم مع بعض الشخصيات أو استحواذ السرد أو الزمن عليهم. ويكون ذلك على حساب مكونات الرواية الأخرى. فكم من الروايات الجميلة فقدت رونَقها كونها ركزت على جانب أحبّهُ الروائي أو عشقته الروائية وتقمصته!؟
بعض الروايات ركَّز على موضوع الجنس كمحور وحيد في الرواية! آخرون وأخريات ركزن على - ما يثير المجتمع ويدفع القارئ لشراء الرواية - عبر إبراز أحداث لمَثليات , وهي قضية تعتبرُ من (التابوهات) في المجتمع الخليجي والعربي عموماً!؟ خرج هذا البعض على مألوف ما تقدم - كشكل لقالب الرواية - مثل اليوميات! ومن اليوميات التي اكتسبت شهرة كبيرة اليوميات الإلكترونية التي تمثلت في عمل (بنات الرياض)! رغم أن هذا الشكل - الذي يُعتبر جديداً في المنطقة العربية - كان من الممكن أن يحتوى على أحداث بعيدة عن المذكرات اليومية لبطلات الرواية! البعض الآخر ركز على النوع الاجتماعي، ومعاملة الطوائف لبعضها مثل (السنة والشيعة) حيث اتخذ منها منطلقاً لإظهار تناقضات المجتمع واتجاهات الجسد بين الراوية و(ضي) التي كاد السردُ يمّر عبر جسدِها، حتى تتهمَ نفسَها بأنها (عاهرة)؛ كما ظهر ذلك في رواية (الآخرون) لصبا الحرز! حيث تذكر الرواية قضية المواقع الإلكترونية الخاصة بالمثليات؛ أو التنقل بين المواقع الخاصة بالشاذين homosexual أو ثناي الجنسbisexual. وتذكر أيضاً الطقوس الُمُمارسة في الحسينيات وهو ذِكرٌ عابر كان يُمكن أن يُوظفَ توظيفاً ثقافياً وسوسيولوجياً معمقاً للحالة المستغلقة بين الطائفتين في العالم الإسلامي. ولربما كانت كثرة الشخصيات في الرواية أحدثت بعضَ الإرباك!؟
ويُلاحظ السرد الواقعي المختزل لأحداث تاريخية واقعية - لربما - في رواية مريم آل سعد - من قطر - (تداعيات الفصول)! حيث تبدأ بالمكان البعيد (مدينة ديزني -باريس) الذي تستحضر فيه علاقتها الميئوس منها بسلطان (الوزير) في المؤسسة الصناعية الكبيرة. حيث تقوم مجموعة من الطالبات باقتحام اجتماع لمجلس إدارة تلك المؤسسة التي يحتكرها الرجال، الذين يعتبرون أن ابنة القبيلة لا يجوز لها العمل مع الرجال! وتكشف الرواية الفسادَ الإداري الذي نخرَ في تلك المؤسسة، وحربَ الرجل ضد المرأة، وياس البطلة (سارة) في تلك الحرب. كانت شحنة الغضب والدفاع عن الأنثى متوفرة في أغلب صفحات الرواية. والتي تجنح أحياناً إلى لغة (الوعظ) الذي يُخرج الرواية عن خطوطها وركائزها - ذلك أن الروائية هي كاتبة مقال بالأصل - ونجد ملامح ذلك في الصفحات (128- 129-13-151-152-153-154- 184-185-186-187) وغيرها.
كانت لدى مريم آل سعد قضية مهمة وهي دور المرأة في المجتمع الذكوري! لكنني أجد واقعية الأحداث مسيطرة جداً على إحداث الرواية! وهو ما جعل الكاتبة تفيض في الحديث عن الإدارة السيئة ورجالها، مضيعة بذلك فرصة نادرة لإدانة تلك المؤسسة بصورة أكثر عمقاً دون ترك هذه القضية في نهاية مفتوحة على الأمل! وكذلك الانقسام الحاد في شخصية (سارة) بين مبادئها وتطلعاتها وإحساسها بحب (سلطان) الوزير، الذي ظل رمزاً للطموح، واستحالت حياتها إلى خيال يتعلق بخيال آخر أو رمز لتكوين المدينة الفاضلة، وتظل تحلم بسلطان جديد، ولقد انحازت البطلة (سارة) إلى الحلم الثاني وهو الأمل في التغيّر!!
ولعلنا نستشف جدية الكاتبة في التعلق بذلك الأمل رغم أن واقع الأمر - فيما بعد خارج الرواية - يكشف وجهاً آخر ليس بطبيعة الحال الوجه الثاني الذي كشفته (سارة) بأن الأوضاع سوف تتغير في تلك المؤسسة!! فقضايا الفساد الإداري والمالي والمحسوبية وتوظيف الأهل والعائلات والأقارب ما تزال تنتشر في مؤسسات كثيرة في البلدان الخليجية!؟
نحن نعتقد أن من حق الكاتب (الروائي) اللجوء إلى الوسائل المتاحة لتضمينها عمله الإبداعي، لكن الغريب، أن دورَ النشر العربية أصبحت لا تنشر إلا الروايات التي تخترق التابوهات الاجتماعية أو تلك التي تتضمن أسماء بلدان محددة!! مثل الإغراق في الجنس أو تجسيد المثلية، أو الشذوذ! وتهمل تلك الدور الروايات التي تتناول الهمَّ العام، أو الشكل الإنساني للقضايا، والتي تكون أحياناً غاية في العمق والتناول، وتكون لغتها جديدة غير مكررة!؟
صحيح توجد مقولة في العرف العربي تقول: خالف تُعرَف!؟ لكن المخالفة في الرواية قد تُسجّل ضد الكاتب لا له! خصوصاً في ظل تنامي تناول التابوهات الاجتماعية.
نحن لا نختلف مع زملائنا من أن الجنس أحد المواضيع الهامة التي يجب ألا نتردد من مناقشتها وتناولها في الأعمال الأدبية؟ ولكن أن تكون هنالك (صرعات) متوالية من مواضيع الجنس، أو مواضيع الصراع المجتمعي دون أن تكون مستندة إلى الركائز الفنية المعروفة في الرواية، فهذا ما يُمكن التحذير منه؟ بمعنى آخر ألاّ ندعَ الجنسَ يمارسُ عملية (الاستحواذ) على عقل الروائي أو الروائية بحيث يحيدُ بهما عن أسس الرواية!؟
إن الوقت قد حان لممارسة الجرأة من منطلق حتميات تطوّر المجتمعات وخفوت صوت الرقابة - في بعض المناطق - وإطلاع الروائيين والروائيات العرب على مضامين الخطابات والتجارب الروائية العالمية، ولكن مع ذلك فإن الجرأة والإثارة يجبُ ألا يُخرجا الرواية عن أسسها المعروفة، فتصبح بذلك بلاغاً مؤيداً لنمط جنسي -مستحوذاً على عقل الروائي والروائية- وبالتالي يتم فرضهُ على المتلقي!؟
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«8072» ثم أرسلها إلى الكود 82244