(1)
غابوا عنِّي، وبقيتُ وحيداً، أقرأ بقايا غبارهم في ذاكرة الشوارع، وشوارع الذاكرة. حملت ما تناثر من فتات صورهم، وهربت إلى فيء روحي، يظلني دمع أهوج، متربع على وجهي، وحسرة مريرة، تعبرني كالسهم، تلون خارطة حزني وألمي.
تقاذفتني أمواج تعبي في بحر الغربة المتلاطم، لتقذفني أخيراً إلى شاطئ مهجور لأجد نفسي ملقى على رمل وحدتي، عابثاً بالطين، أرسم تارة عليه وجهي، وتارة أمحو، وتارة أخرى يلاحقني الموج، فيغرقُ كل الرمل.
هل سأنزعُ ولو متأخراً جداً فتيل انشطار الحزن الصاخب، والوجع الذائب في دمي ويعلو وجهي خارجاً من قمقم غياباته، وأظفرُ بلحظةٍ متقدمةٍ ومتمردةٍ على هاجس هذا الموت البارد؟.
هل سألاحق يوماً وجوه الذين قد غابوا، داعياً بقايا صورهم، إلى احتفالات الذاكرة قبل فنائها المرتقب كل حين؟.
هل سيقدِّرُ أولئك الغائبون حينها نحيب تهالكي، وجنون بوحي، ولوثة الحلم الرابض في أوردتي، وهاجس التعب المثقل بالأنين؟.
(2)
أحلامي شابت، ظلت دهراً فوق طاولتي، ترقص دون هوادة، كفتاة غجرية. كلّت، ملّت، تعبت، هرمت، حتى أضحت كعجوز خرفت، وانسلت إلى مخدعها، وحيدة، كئيبة، تعصرها حسرة أيام ذهبت واندثرت.
آه يا أحلامي العجوز، لو جاز لي أو يجوز، لقلت انتحرت، تركت على طاولتي، نظارتها السميكة، أقلامها القديمة، ورقاً أصفر قاتم اللون، وعصاها الخشبية.
آه لها، من يأبه الآن بها، أو تغريه لحظتها الرمادية، ووقتها الشاحب المتجعد؟ هكذا أضحت أحلامي، بعد أن تقوس عودها، وتدنى جبينها، وتهالكت أيامها، هكذا أضحت، بنظرتها المتكسرة، تحدق في الثرى فوق الثرى تحت الثرى، تخط بعصاها الرمل تحاول رسم ظلالها بما تبقى في ذاكرتها المثقوبة.
الآن وحيدة، خلف نافذتها الوحيدة، وبابها الوحيد المغلق، وبنظرة تبدو بعيدة، ترقب المدى المحترق.