أحزاني أشجار أزرعها في الظل.. بعيدا عن تربة تسقى بلعاب اللاهثين خلف المرح الرخيص.. أنبتها نباتا حسنا.. وأمد جذورها إلى النضج.. إلى الأعماق، لينمو أعلاها شامخا ومضيئا، فيراه المدلجون على بعد ثلاث ليال.. ويهتدي به الساهرون.. ويمدون له أيادي من ثقة.
لذلك لا أستطيع أن أثق بالآخرين إلا بقدر ما يحملون من أحزان.
أما حين تشيخ هذه الأشجار.. يتحول حفيف أوراقها على أرض الذكريات إلى ليل طويل.. لا تنام نجومه.. ولا يهدأ سماره.
بأي شيء أعزي نفسي.. وأنا أرى دموعهم تهيل عليك تراب قبرك؟ هل كنت أتجلد واهما.. أو مكابرا.. حين رأيتهم يبكون لعدة أيام بعد ذلك؟ هل صحيح أنني إلى الآن لم أذرف دمعة واحدة..؟
قرأت ذات يوم.. أن أجمل مشاعر الشاعر هي التي لم يستطع كتابتها.. ربما كنت أرى موتك حزنا لا يمكنني كتابته.. ولا بكاؤه.
كنت في (مجلس الرجال).. حيث تصطبغ الجدران بلون اليتم.. وحيث يأتي المعزون ويعودون بآلية قد لا تضيف شيئا يذكر.
رؤوس تتمايل.. مقل تحمر.. وجوه تتورم من فرط البكاء.. ورجلك التي نسيت أن تأخذها معك إلى الموت وعكازك المعوج ينتبذان مكانا قصيا من المجلس.
خرجت إلى الشارع.. لعل جبلا يجثم فوق صدري يدحرج بعض أحجاره.. أو لعل ريحا تنفذ غيظها فتتقصف أغصان تكاد تسد حنجرتي.. ولكن لا جديد هناك.
عدت مرة أخرى.. فرأيتك في الزاوية تطل من ساقك المجوف، وتشير بإصبعك نحو طفل يتهادى هناك.. ويتعثر بحصاة ملقاة على أرضية الفناء.. فسقطت من يده دمى صغيرة.. لم يلبث أن عاد لالتقاطها.
ورأيتك - أيضا - تنظر إلى أبي وتشير ناحية البيت.. فيرتفع نحيب فتاة بالداخل ويتردد صداه. أبي يغمض جفنيه.. ربما لكي لا يرى دمعة ساخنة تترقرق من بين أهدابه. ثم نهض.. ومسح رؤوس اليتامى.. وقبل جباههم.. وبكى وهو يرى دموعه هذه المرة.
لا أعرف لماذا أتذكرك الآن؟ بعد أن بدأ شعور الفقد يتضاءل.. وقدرته على النشيج تخبو رويدا.. رويدا.
حدقت في قبرك وهم يدفنوك.. كان فمه واسعا.. ولم أصدق أنه نهم إلى هذه الحد.
لم يكتف بعضو من أعضائك ألقيته له وأنت ما تزال في منتصف الطريق إليه.. ما كاد يلوكه حتى بغتك والتهم الجسد كاملا.. وترك بعدك ساقا لم يكمل نصف المسافة الباقية..
وها هو لسان الأرض الآن يمتد ليلعق عكازك هو الآخر.
يعوج مقبض العكاز أكثر فأكثر.. ويصلي عليك صلاته الأخيرة. قبل أن يضمر عوده.. ليتحول ربما إلى آلة ستغني قصيدة رثائك التي لم يستطع شاعر كتابتها.