قال الراوي.. وقال المعنى.. عناوين يصطفيها شعراء ينسبون شعرهم مجازا إلى رموز وشخوص مختارة تريحهم.. وأحيانا تربحهم وتمنحهم فرصة استغراق أكثر.. وتأملات داخل الماء.. وخارج جاذبية الرقابة المسيطرة عل آفاق الطرح.. والمنجذبة إليه..
شاعرنا الفزيع يمتلك فزاعة حركة شعورية بدأها بالترحال:
أفديكِ بالروح إن لم تفتد المقل
يا ملجأ القلب إن ضاقت به الحيل
قلبي تمزقه الاحزان يا قدري
فلملمي كل جرح بات يعتمل
أرنو لطيفكِ في الأحلام أنشده
وصلا.. فما حيلتي.؟ قولي؟ وما العمل؟
هكذا يبدأ خطاب الاشتياق تسكنه وحشة الحيرة.. وربما الغيرة.. وآهات الحظ العاثر..
آه على الحظ قسرا.. كم يعاندني
يحمل القلب.. ما لا يحمل الجبل
حب هذا ثقله لا بد وأن يكون قيد أسر لا فكاك منه.. يصعب تحمله أو تقبله.. ولكنه الحب الذي لا طعم لمذاق الحياة دون كأسه.. بثها النجوى كما شاء له الهوى.. فؤاده تائه دون صمت.. إنه يبحث عن شيء رحل لا يدري متى يعود ليعود معه حلمه..
اترجعين من الترحال في عجل
لا فرق عندك كوني ضمن من جهلوا
تأتين سرا كأني غير مكترث
لو تعلمين بأني لست احتمل..
لو كنت ادري لماذا؟ ما شكوت جوى
ولا تحملت جرحا ليس يندمل..
المرأة أحياناً تتغلى كي تفجر في أعماق من تهوى عذابات تنتهي إلى عذوبات.. سلامها الوحيد لاصطياد قلب من تحب شدّه ومدَّه ثم استرخاءه لحظة مقاومة كي تبدأ المساومة.. وهنا يتحدد الطرف الأقوى الذي يكسب الجولة ويفوز
سؤال.. يعني أسئلة كثيرة كلها تصب في مجرى واحد لا يتغير.. الشوق المعجون بالشوك.. شاعرنا يسأل كيف تحول الضياء إلى ظلام. وصرح المشاعر إلى حطام.. والحلم المنصهر في صفوف الخصام.. يسأل عن صور وملامح مرسومة في ذهنه.
وأين الجداول تنثر شلالها كليل غزته جيوش الظلام
وتلك الشفاه بها رحيق مذاب
ونبع شهي الرضاب يجسد معنى الهيام
وأشياء أخرى بداية من القوام، امتداداً إلى سهام العيون الجارحة.. وصولا إلى الفجر.. نهاية بالنجوم.. وبعد أسئلته يجيء سؤال الأسئلة.
لماذا تهادن هذا الوتر؟
ترفض الا الخصام؟
أين عهود السلام؟!
شاعرنا أدرى بالسبب.. لكل خصام صد.. ولكل سؤال رد.. يبدو أنها بقيت صامتة دون جواب.
الفزيع يوقع حس الرقيق نقلنا من الشكوى إلى ليلة زفاف تملأ فضاءها الأغاريد والزغاريد..
في ليل عرسكِ يا حياتي نعمة
تنداح ملء جوانحي وفؤادي
في ثوب عرسكِ ترفلين بنشوة
وعلى إهابك روعة الاسعاد
تنهي على كل الحسان ووقعي
بخطاكِ لحنا رائع الإنشاء
هكذا الأبوة الشارعة تصدع بشعرها ليلة فرح.. كيف لا وشهرزادها أحب الناس إلى قلبه.. لأنها فلذة كبده..
بدمي هواكِ به أضأت جوانحي
لوَّنت باسمك أحرفي ومدادي
ورسمت وشمك في الفؤاد فعاد لي
ماض شجي موغل الأبعاد
ليلتها يتقاطع الحب مع الغياب.. الفرح بحياة جديدة.. والخوف على حياة قادمة.. صراع نفس محتدم بين أمل منشود.. وألم يخشى منه.. أن طبيعة لحظة كل زفافه يُرتجى من نهايته..
(غصن الأراك) كما اترسمه في خيال شاعرنا.. (غصن.. أراكَ) لا ينتمي لشجر.. وإنما ينتمي لبشر.. هكذا يبدو الخطاب..
بي مثل ما بك في الهوى
إني أغامر كي أراك
حكم الهوى والعاذلون
أبوا بأن تزهو خطاك
ويمارسون طقوسهم
بل يزرعون لنا الشباك
إن كنت مثلي مدنفا
فلتقترب مني خطاك
سبحان من أعطاك هذا
الحسن يا غصن الأراك
مجرد عتب من جانب معذب صورته واضحة.. ونهايته غائبة.. الشعراء أحيانا لا يريدون لنا أن نعرف البدايات ونجهل النهايات لأمر في نفس يعقوب.. (صوت الصمت) عنوان يومي بما ادعيته نهجا يلجأ إليه شعراؤنا من جانب واحد.. هم يتحدثون. يتأوهون.. يتبرمون ولكن دون صدى.. لنقرأ معا أول بيت لصوت صمتها، وآخر بيت لصدى صمته..
يا ملاكي جاء في صمتك لحنا
يحمل الشوق وفيه ألف معنى
يا حياتي لك حبي شمعة
أتمنى في هواك العمر يفنى!
والسؤال أين هو العمر؟ حب لا يلتقي مجرد جمر يكوي ولا يداوي..
شاعرنا استطاب الرحيل واستطبناه معه استشرافا للمصحلة.. وحصادا للحصيلة
إذ ترحلين تذكري نجواي.. والنجوى فنون
وتذكري همس اليدين.. حين تسبقها العيون
ليت أخي أبدل همس اليدين بلمس اليدين لكان أنسب.. يستمر شاعرنا في توصيفه ويقف بنا عند نقطة الغياب والعذاب.
إذ ترحلين حبيبتي فالقلب مأسور رهين
كل الفضاءات اعلمي إذ ترحلين هي السجون
ان كان في الحب جنون. فكم يشرفني الجنون
نعم في الحب جنون.. وفي الحب مجانين يسترجعون عقولهم باسترداد حبهم.. أو بضياعه.. سيان.. شاعرنا موصول بشعره بين جنون لا يبرأ منه..
وحنين لا ينفك عنه.. إنه بين نارين أحلاهما مر.
يا أنت يا أنشودة نشوى يرتلها الموجود
ويصوغها قلب ضناه الشوق إلى ظلالك
لو غرد القمري أضحى لحنه رجع انفعالك
لو أشرقت شمس على المدن..
مثل انكسار الضوء. نورا من حلالك
كل هذا رائع يشهد لك المغامرة ومرة بحبها.. بتفانيك في وصفها.. والسؤال: ماذا بعد؟ اطلب جوابا.. أي ثوابا منها على هذا العشق المشبوب.
حتى (الرجوع) من طرف واحد.. هو نفسه ظل وحيدا يغرد خارج سرب من يهوى:
رقة الحسن. والجمال البديع
يا أنهار الهدوء بين الضلوع
وحنانا يرف قلبي إليه
وأمانا من حرقة التوديع
ورحيقا إذا همى عبقريا
ينعش القلب إذ نوى بالرجوع
المنية في الحب لا تكفي.. الرجوع عودة مياه إلى مجاريها تتحسن قلبين ظامئين يتطلعان إلى حياة لا شكوى فيها ولا اغتراب.
هذه (المرة) خارج شاعرنا عن المألوف.. اعترف بالجفوة.. تحدث عنها:
أمد إليكِ يدا بالوفاء
فتمتد كل الأيادي جفاء
لا أدري ماذا يقصد بالأيادي وهي جمع يد.. الواحد منا يملك يدين فقط.. حسنا لو قال: (فتمتد منك يداكِ حفاء)..
شاعرنا المجيد اقتات في سبيلها جوع الليالي. شيد قصورا فوق الرمال تهادت. دفن شجونه في دواخله.. حاول أن ينسى.!
أحاول أنسى.. فأنسى على الرغم من عاديات الزمان
نسيت بأن الجفا شيمة عند بعض النساء!
وإن الحبيب مزاع.. وإن العذاب المحب يلذ لهن
فكنتُ المحبَ الذي لم يجب..
ألم أقل لك إن للمرأة سواهي ودواهي.. كما للرجال أيضا نفس السواهي والدواهي حتى لا نظلم أحدا على حساب أحد.
الحب في حياة شاعرنا جذوة متقدة لا تخمد.. إنها لغة صوته القوي أحيانا، دلفة صمته البليغ أحيانا.. الحب برحيله.. الحب بعودته.. الحب بانتظاره.. يشغله
الغرام.. لأنه لغة الكلام..
ملء عينيك يا غرامي غرام
بك ما بي إذا اعتراني سقام
نحن في القرب جمرة تتلظى
وعلى البعد يعترينا ضرام..
وأرى فيك حرقتي واشتياقي
أنت مثلي إذا العواذل لاموا
يستعيد شاعرنا المعنى لحنه الأخير كما تعودنا
اذكري غربتي فإن لم تذكريني
فعلى قلبي المعنى سلام..
صفحات ديوانك تكاد تغرق بدموع الآه.. والشكوى.. كلها حنين. وأنين. وترقب من مقطوعته إليها.. مرور ب(حلم اللقاء) حيث تجف دموع صب يعقبها دموع حب.. لقادم جديد.. إنه المولود الذي استقبل حياته بصرخة
على بساط أخضر تزفني السعاده
وعانقت عيناي جسمه البديع
قبلت وجهه الوديع..
ومن جبينه يشع النور.. يغمر المكان
خداه وردتان.. وفوه أقحوان
عيناه توحيان بالغد القريب
وليد جديد ككل الناس.. صفحة جديدة من حياة ولدت ستملأها الحياة بحكايات وحكايات لها بدايات ونهايات.. سيبكي وسيضحك.. الحياة حقل تجربة.. حصادها مر.. وآخر حلو.. نستطعمه دون اختيار لأنه قدر ومشيئة ونصيب.. وهذا ما عشته وأن تشهد صغيرك مسجى على فراش الموت وقد لفظ أنفاسه
نبأ يعصر القلب ويمتص شعابه
ليته ما حمل النعي. ولا حمل القلب عذابه
كان بالأمس رجاء.. والأسى أغلق بابه
كل ما أدريه أني
من خلال الدمع ألمح برهوم مسجى
ينثر الحزن على متن سحابة
كلنا يا شاعرنا سنغرق التراب بدموع الوداع.. لا مجزع من قدر الله.. كلنا على الدرب نستحث الخطى مسيرين لا مخيرين..
زيارة الخليل لابنه الراحل من أروع ما جادت به قريحته:
بالأمس قادتني خطاي نحو تلك المقبره
شاهدت حارسين - راحا يسألان:
- ماذا تريد؟! أجبت:
- ها هنا تركت قلبي الجريح
- اتعرف المكان؟.. عادا يسألان:
- نعم.. أجبت لدي هاجس يدعني عليه
جوارحي تقودني إليه.. وسرت مثقل الخطى
وناظري يصافح القبور، يقرئ السلام
حتى رأيت قبره الصغير ينوء حوله اخضرار
كيف تنبت الأعشاب دون ماء؟
من أي نبع يستقي هذا النبات
وينبض الحياة بالتراب.. قرأت الفاتحة
بهذا الوصف السردي الغير متكلف رسم لنا مشهدا عاطفيا يعيشه كل من فقد عزيزا غاليا عليه.. إنه لمسة وفاء لحياة قصيرة عاجلها الموت.. من مغامرات الحب التي انتهت خطاباتها بما يشبه الخطب.. إلى وجيعة الفراق بين أب وابن كان على موعد مع الحياة.. وجاءت النهاية فراقا أبديا لا رجعة فيه.. أمام كل هذه العذابات.. وبروح إيمانية اتجه شاعرنا الفزيع نحو رحاب الإيمان مناجيا.. متبتلا.. تائبا.. فمن مناجاته اجتزئ بعض من أبياته
إن الأحبة قد ولى الزمان بهم
فأصبحوا عبرة من بعدها عبر
أين الربوع التي بالسعد عامرة
أضحى الخراب بها ينمو وينتشر
ماذا أمامي غير الله ملتجأ..
أرنو إليه بنفس مسها الضرر
ومن مقطوعة (توبة) هذه الأبيات:
أيا سادن العشق أنت الذي
شُغلت بأمر ذوات الحجال..
نهلت كثيراً من الموبقات
وما شاغلتك هموم الرحال
أما آن للنفس أن تستقر
لظل الأمان. بُعيد الضلال
سوى أن تتوب فإن الإله
غفور كريم، عظيم الجلال
ومن مقطوعة مناجاته:
مَن لي سواك أنادي
يا من عليك اعتمادي
في هدأة الليل دوما
يرنو إليك فؤادي
ساعات ليلي ابتهال
مسربل باجتهاد
من عبء كثر الخطايا
عرفت معنى السهاد
كثر الخطايا ليست خطأ إلا أن الأفضل منها دلالة (من عبء حمل الخطايا).
كأن ليلي دهر
يمتد دون رقاد
وفي نهاري طريق
محفوفة بالقتاد
(النهار) مذكر.. ومحفوفة (مؤنث) حسنا لو جاءت على النحو التالي: وفي نهاري حياة، وينهي شاعرنا مناجاته بقوله:
يا من ينير دروبي
إذا اكتست بالسواد
اني. وان ساء فعلي
أو فاض كيل عنادي
فلن أعود لأمر
به شقاء العباد..
وأخيراً مع أنين جراحه.. ومن فينا من لا جرح له..؟
قلبي يعاني في الأسى، ويثار
وبأمتي يتحكم الأشرار
جرحي يئن.. لأن جرحكِ أمتي
ما زال ينزف نبعه الفوار
في كل حين كم أغالب دمعتي
ويفيض مني دمعي المدرار
بحر من الأحزان يقذفني هنا
وهناك تبدو موجة وقرار
شكوى لمن له الشكوى.. لقد أمضى الألم على وقع المأساة التي تلم بعالمه من جراء العدوان والظلم والتوحش.
أنت الذي يحمي الأنام برأفة
وعن الخطايا ساتر وستار
فمن المظالم ما يزال يلفنا
برداء خبث. ظالم غدار
أما النفاق فما يزال بساحنا
يزجيه فجرا عابث مهزار
يأتي إلينا السامرون تزلفا
لولا المطامع لاختفى السمار
ولرب فرد نصطفيه بودنا
فيخون عهداً، والخيانة عار
ويختتمها بهذا البيت المليء بالرغبة. والرهبة:
لا. لا أشك بأن عدلك ثابت
لكن ليلي لا يليه نهار
أبدا حتى ولو أطبق الليل بجوفه فإن ميلاد فجر النهار وإن طال انتظاره لابد وآت.. لأن وجه الحياة الذي لا يمكن طمسه..
وبعد.. أقول للزميل الصديق الشاعر والأديب خليل إبراهيم الفزيع: لقد حملتنا معك على جناحي أملك وألمك.. أملك في عودة راحلة هانئة بقلبك دون لقيا.. وألمك في غياب أقرب الناس إليك دون عودة.. وفي حلمك بغد أفضل لعالمك المسكون بالتوحش وحب السيطرة.. وفي ابتهالاتك حيث المناجاة.. والتوبة.. كلها يا فارس رحلتنا زاد أطعمناه جميعاً بعقولنا ومداركنا قبل أفواهنا..
لا عتب لحب يفشل.. العتب أن نغلق بوابة الوصول إليه والحصول عليه بقفل من انغلاق الذات.. ومن المكابرة التي يسدل معها ستار الفصل الأخير دون نهاية.. في اللقاء بشعرك ومشاعره متعة لا تنسى.
***
لإبداء الرأي حول هذه المراجعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5621» ثم أرسلها إلى الكود 82244
++++++++++++++++++++++++++++
الرياض: ص. ب 231185
الرمز 11321 - فاكس 2053338
الرياض: ص. ب 231185
الرمز 11321 - فاكس 2053338