يشتغل نظرياً وتطبيقياً بهدوء عاصف -إذا صح التعبير- فثمة ملامسة لخطابات متعددة: شعرية، وسردية، ونقدية، ثمة ما يسميه، وثمة ما يضيئه ويستشرفه، هكذا هو الناقد الناسك حيال النص الأدبي الدكتور عالي بن سرحان القرشي الأكاديمي بجامعة الطائف، الذي حصل على درجة الأستاذية منذ ستة أشهر بالتحديد في 12 ديسمبر 2007م، لا يثير زوابع إعلامية مصطنعة، ولا يحب الظهور أو النجومية فيما يؤكد في هذا الحوار الذي نكاشف فيه بعض إسهاماته الكلامية -باعتبار سوسيري- الجدلية الناصعة، وهو يشير إلى أهمية أن ينأى الناقد عن جوقة تمجيد النصوص الرديئة، ويرى أن هناك نمطين من الرواية: الكاتبة والحاكية، ويرصد بعض الأعمال الروائية الفنية، فيما يحدد الفارق بين الكتابتين الأنثوية والذكورية، وإلى نص الحوار:
* تشهد الرواية السعودية في المحلة الأخيرة نوعاً من الطفرة، فهل هذه الطفرة سببها حاجة المبدع إلى البوح والتعبير والكشف باتت ملحة عبر هذا الفن؟
- أتفق معك في وجود طفرة، بسبب من أن الرواية اتخذت جرأة وطريقة في البوح، لكن يبدو لي أننا لا نستطيع في هذه الجلسة، أن نحدد الأسباب بطريقة علمية، لكن أستطيع القول أن هذه الطفرة جاءت نتيجة اتساع المساحة المتاحة مع القارئ العربي، وإيصال الكتابة له. هذه السهولة في التواصل جعلت الاتجاه إلى كتابة الرواية اتجاها ظاهرا أكثر من غيره، ذلك أن الرواية نص مفتوح على نصوص متعددة، يستطيع به الروائي أن يستحضر التاريخ، ومشاهد، وذكريات، يستطيع أن يتناص مع نصوص أخرى مختلفة، يستطيع أن ينشىء علاقة مع عوالمه التي كونها، فهذا التكوين يصبح لدى الكاتب لا يلبث أن يدفع به إلى الأمام وإلى الكتابة والنشر، وأستطيع أن أقول أيضاً إن كتابة الرواية مساحة من إمكانية جهارة الآراء وإمكانية البوح حتى لو كان مؤقتاً لأن الكاتب حين يكتب روايته ويظل يتعامل معها كلمة كلمة وشخصية شخصية، وصفحة صفحة وفصلا فصلا هو في هذا الإطار يشعر أنه يبوح عن نفسه، ويجاهر بما يريد أن يجاهر به. وما باح به في كتاب كانت ردة الفعل تأتي وقد أنجز وباح بما كتب، والذين لا يستطيعون نسبة هذا العمل إلى أنفسهم يتخذون اسما مستعارا على هذا العمل، ويخرجونه بذلك، حتى من يصدر الكتاب باسمه، يصدره بشكل المتابع البعيد. وينتظر من يتصفح العمل صفحة صفحة وقد جاء انتشار الرواية بسبب البوح، وبسبب مجاوزة الرقيب.
* معظم الدراسات التي تتناول الرواية السعودية تركز على المضمون الواقعي والجمالي دون كبير اهتمام بالبنية والمعمار الجمالي الذي يشكل نوعا من الرسوخ لهذه الرواية أما ما هو مضموني واجتماعي فهو متغير في نهاية الأمر فما السبب؟
- كون بعض الكلام الذي يدور حول الرواية يدور من أنها انقلبت على السائد والمألوف، وجاءت بجهارة الرأي وكسر التسلط، والبحث عن الهوية، كل هذه الأمور جعلت الاتساق مع أحداث الكتابة الروائية جعلته يظهر في بحث الدراسات. وهذا جنى على الناحية الفنية والجمالية في الرواية، وعلى التمايز بين رواية ورواية أخرى.
جهارة الرأي والصوت ليست هي الميزة الجمالية للرواية، وقد صعدت روايات وهي لا تستحق فنيا من هذا الجانب.
* مثل؟
- مثل (بنات الرياض) أنا لا أجد فيها ذلك العمق الفني، وإنما رواية تحكي وقائع يومية، ومشاهد، ومغامرات وتتبع لحكايات فتيات، قد يكون ذلك من المسكوت عنه، لكنني أجده في روايات أخرى مثلا في (جرف الخفايا) لعبدالحفيظ الشمري ويوسف المحيميد في (القارورة) وعبده خال في (فسوق) ونورة الغامدي في (وجهة البوصلة) عبرت كثيرا عن المسكوت عنه، وناقشت بجرأة، لكن ذلك كان في إطار الفن في إطار إعطائك للرواية صفحة أخرى فنية، تشير إلى أن هذا لم يكن مجرد بوح، أو أحاديث عارية أو أحاديث تفضح المسكوت عنه وتعريه فقط، بل هي كتابة فنية على مستوى الشخصيات، وحالاتها، وعكسها لشخصيات أخرى.
* لك اهتمام مديد بالسرد، خاصة السرد النسوي ومسألة الحكي في الرواية والسرد، ما أبرز السمات التي تميز الخطاب السردي الأنثوي، من خلال اشتغالك على عدد كبير من النصوص؟
- أنا من خلال اشتغالي على عدد كبير من نصوص المرأة، في حقيقة الأمر لا أستطيع أن أرى تمايزاً فنياً، بحيث يمكن أن نقول إن هذا يمثل نص المرأة ولا يمثل نص الرجل، لكنني أستطيع أن أحدد نص المرأة وأتكلم عن مظاهر في نص المرأة مختلفة، بسبب من طبيعة حكي المرأة، وما ألفته الأنثى من تفاصيل دقيقة، في عالمها أكثر مما يعرفها الرجل.
في طريقة تأويل الأنثى لعلاقة المرأة مع الرجل، ولعلاقتها مع المجتمع، ولعلاقة المرأة مع بنات جنسها، من هذه الناحية يمكن أن أجد ظواهر في نص المرأة قد لا أجدها في نص الرجل. لكن من ناحية فنية لا أستطيع أن أحدد ميزات فنية يتميز بها جنس أنثوي عن جنس ذكوري.
* سؤال اتهامي نوعاً ما: يلاحظ على النقاد البارزين في متابعة النشاط الثقافي أن هناك نوعاً من الهرولة الزاعقة والصاخبة، حين كان الشعر متوهجا كانت معظم الدراسات تركز على الشعر، وحين توهجت القصة انتقل النقاد للقصة، واليوم حين توهجت الرواية هرول النقاد لقراءة الرواية مع أن هناك إبداعات شعرية وقصصية، وأنت من المتهمين في هذا المجال فمعظم كتاباتك الأخيرة عن الرواية والسرد؟
- طبعاً أنا لا أخفي هذه الظاهرة، لكن يبدو لي أحيانا أن من مسؤولية الناقد أن يدخل في إطار العلاقة ما بين النص الذي يسود وبين استقبال هذا النص، لكن مسؤوليته ألا ينطلق في جوقة تمجيد نصوص قد تكون نصوصا رديئة، ولذا تجدني مثلا أنني أقول أنني ولا فخر أنني لم أدخل في مسألة (بنات الرياض) بأي وجه من الوجوه، وأيضا نحن بحاجة إلى هذه المتابعة، وعدم إغفال الأجناس الإبداعية الأخرى، فقدرة الاختزال في القصة وقدرتها على الانفتاح على نصوص أخرى داخل القصة، هذا نوع من أكثر الأجناس مواكبة لزخم الحياة السريعة الحاضرة، والقدرة على تكثيف هذا في جدل قصصي، يعطى للقارئ بدلاً من هذه الفورة في عالم الرواية التي تشعر أحيانا أنها تترهل إلى حد كبير.
* لماذا لا تمارس مسألة نقد النقد إذا صح التعبير، مع انشغالك بالظواهر الأدبية بالتأكيد، فهناك ما يتطلب وقفة مع بعض النقاد فأين الدكتور القرشي من هذه المسألة؟
- أحاول أن يكون لي في هذه الدائرة اهتمام، ولذلك تجد أن لي بحوثا كثيرة في هذا الجانب اشتغلت على نقد قديم، وعلى معالجة الجرجاني نصوص الطائيين، وكيف اختلف التنظير عن التطبيق عنده، وتابعت دراسة قصيدة الحادرة التي كتب عنها نقاد كثر، وتابعت هذه الدراسة وخرجت بنتائج متعددة وهذا يمثل جانبا من اهتماماتي النقدية.
* هل ترى أن هناك تمايزات بين تيارات روائية مختلفة، هل هناك مدارس أم أن الرواية ما زالت في طور التشكل؟
- إن من يبحث قد يجد اتجاهات، هناك الرواية الكاتبة والرواية الحاكية، بمعنى أن هناك روايات ليست للكتابة فيها دور تسجيلي، حكي عن علاقات، مشاهد بنيت في الذهن أولا ثم جاءت الكتابة لتدون هذا الحكي.
بينما هناك أنماط من الرواية تتكون من الكتابة، الكاتب الروائي منذ أن يبدأ في كتابة روايته نجد أن الكتابة تقوده إلى مسارات أخرى في هذه الرواية. وهناك أيضا روايات تخلق عالما آخر موازيا للعالم المشهود مثل رواية (حبى) لرجاء عالم. هذه الرواية أجد أنها تخلق عالما متخيلا ومفترضا، وهو في الوقت نفسه ليس بعيداً عن صراعات وتنافس وتسلط العالم المشهود الذي يمكن أن يكون واقعيا، وهناك روايات لا تعدو إلا أن تكون تسجيلاً وتماهياً مع حركة الواقع وتغيراته.
* حتى الآن تظل الحركة النقدية متهمة بعدم المتابعة هل هناك ما يمنع أن يكون الناقد موسوعياً ومؤثراً في المشهد الأدبي، بمعنى أن يقدم أجيال جديدة، وأن يأخذ زمام المبادرة النقدية؟
- طبعاً دور الناقد دور رئيسي جدا، والمثقف المهتم بالشأن الثقافي ليس بالضرورة أن يكون ناقداً، فهناك أناس احتضنوا إبداعات، ويدفعون بها إلى الأمام، خاصة أن الإبداع لا يتحرك إلا بتفاعل المبدع واطلاعه، ورؤية إبداعاته بجانب إبداعات أخرى، ليرى ماذا قدم هو، ومن هنا ينمو إنتاج المبدع.
والناقد لا يستطيع أن يشكل مبدعاً، فالمبدع يتكون من خلال إبداعه هو وإتاحة الفرصة له لتقديم إنتاجه. ومن خلال جمعية الثقافة والفنون بالطائف استطعنا أن نحتضن كثيراً من الإبداعات التي جاءت وكانت تشارك لأول مرة وعلى استحياء، فإذا اليوم لها حضورها في المشهد الإبداعي وأصدرت أعمالاً متعددة.
* ما هو موقع الدكتور عالي القرشي بالنسبة للحركة النقدية في المملكة؟ هل تشعر أن هناك غبنا ما يلامس صوتك النقدي بشكل أو بآخر، على اعتبار أن الإعلام يركز فحسب على النقاد النجوم؟
- طبعا هذه المسألة: النجومية، والحضور يبدو أنها مسألة حظوظ، ولست معنيا بهذا الظهور، بالعكس الظهور الذي يكون أكثر من اللازم يحمل الإنسان مسؤوليات، ويؤدي به أحيانا أن يكون حضورا مجانيا وهذا أمر لا أرتضيه.
لكن أحيانا تشعر بالناس وهم في غمرة إنتاجهم ودراساتهم لا يلتفتون لمثل أمور تكون أنت كشخص قد عالجتها من قبل، مثلا نجد كتابات تتحدث عن: نص المرأة وإبداع المرأة، وكذا، فتبحث في الفهرس فتجد أنني تناولت هذا النص في يوم من الأيام أو تناولت هذه الرواية في يوم من الأيام، فلا تجد هناك إشارة إليك، ربما من عدم الوصول، ربما من قصور في توصيل ما أنتج، لكن أحيانا تبقى المسؤولية الثقافية مسؤولية جماعية وملزمة للباحث التالي أن يتقصى ويتعرف على ما سبقه.
* أخيرا ما الجديد لديك؟ على ماذا تشتغل نقديا؟
- أشتغل الآن على كتاب عن نقد النقد، بحوثه ودراساته جاهزة لكنها تحتاج لتنسيق لتصدر مجتمعة في كتاب، وأشتغل على موضوع: السفر والسرد، وقد كتبت فيه عدة حلقات وأحاول أن أستكمل هذا الموضوع ليظهر في كتاب، ولدي دراسة أيضا عن القصيدة الحديثة في المملكة، أنجز قدر كبير منها لكنها تحتاج لتنسيق وترتيب.