هذا عنوان اختاره المؤرخ الأمريكيّ ذو الأصل الياباني رونالد تاكاكي Ronald Takaki لفصل من فصول كتابه (تاريخ أمريكا متعدّدة الثقافات). وهو بالفعل يقدّم استعارة موفّقة في هذا العنوان. فالمرآة تعكس الصور، وبالتالي فإن مرآة مختلفة ستعكس صوراً مختلفة. تشكّل دراسات الصورة جزءاً مهماً من الدراسات الثقافية، ودراسات ما بعد الكولونيالية، التي تشغل شطراً غير يسير من النتاجات الثقافية والفكرية في العالم كله.
وتشكّل هويّة الناظر في المرآة عاملاً مهما فيما يراه هذا الناظر: طوله، وقوّة نظره، وثقافته، والزاوية التي ينظر منها، وقدرته على التأويل، كلّ ذلك له شأن في الصورة المتحصّلة لديه، في نهاية عمليّة النظر، أو تشكيل الصورة.
وبناء على تفاوتات النظر، يطلع تاكاكي على قرّائه بقوله: إنّ التاريخ الذي تكتبه الضحيّة - يختلف بالضرورة عن التاريخ الذي يكتبه المنتصر، فضلاً عن حقيقة أخرى موازية هي أنّ كثيراً من الضحايا لا يدركون أنهم ينبغي أن يتكلّموا على ما تحصّل في مراياهم من صور لما حدث معهم.
ويشير تاكاكي إلى أنّ من خصائص المرايا أنّها تمتصّ الطاقة ممن يقفون أمامها، وليس ذلك بعيداً في إيحائه عن أن تعدّد الصور التي تصوَّر بها الأشياء، وكثرتها، يفضي بتلك الأشياء إلى الضعف، مهما كانت عظيمة، فهو يمتصّ طاقتها، وهو بهذا يطرح نبوءة تفضي إلى أنّ أمريكا متعدّدة الصور - آيلة إلى ضعف سببه كثرة تلك المرايا.
ويكمل تاكاكي بالإشارة إلى أنّ المرايا في ميثولوجيا بعض شعوب أمريكا اللاتينية هي شيء من لوازم الموتى، فهي توضع معهم في قبورهم، لتدلّهم على الطريق إلى الآخرة، في العالم السفليّ.
ثمّ يستمرّ بسرد أسطورة الأفعى المجنّحة ذات الريش، التي كانت تشكّل قوّة مذهلة، وخطراً عظيماً، ولكنّها أُعطيتْ مرآةً، فنظَرتْ إلى وجهها، واكتشفت أنّه وجه بشريّ، فأدركتْ حقيقتها، وحقيقة أنّ ما ينطبق على سائر البشر ينطبق عليها، لقد أدركت الحيّة مصيرها بالنظر في المرآة.
حاول تاكاكي أن ينسجم مع البيئة الأمريكيّة التي جاء أهلُه إليها سنة 1880، ولكنه لم يفلح في أن يجعلها تستوعبه، فما زال يُنظَر إليه على أنّه غريب، وليس أمريكيّا حقيقيّا، بالمعيار الذي ينظر إلى الأمريكيّ الحقيقيّ على أنّه أوروبيّ أبيض، في إطار تصوُّر عِرقيّ لأمريكا الدولة - الأمّة.
وهو يستعين هنا بمقولة للروائيّة الأمريكيّة الإفريقيّة الحائزة على جائزة نوبل جوني موريسون، التي قالت: (كان العِرق استعارة مهمة في تشكيل الأَمْرَكَة، فقد عُرف الأمريكيّ على أنّه أبيض البشرة).
ويصطدم هذا كلّه مع حقيقة يسوقها تاكاكي حول نبوءة مجلّة تايم التي أطلقت تحت عنوان (التغيّرات اللونيّة في أمريكا)، حين أعلنت أن الأمريكان البيض سيصبحون أقلّيّة، وسيظهر ذلك بشكل فاجع مع حلول العام 2056، حين يصبح معظم الأمريكان من أصول تعود إلى إفريقيا، وآسيا، والعالم الإسباني، وجزر المحيط الهادي، والجزيرة العربيّة. من كلّ مكان تقريباً ما عدا أوروبا البيضاء.
وأخيراً وفي خضمّ حديثه عن خليط بشريّ متعدّد ومذهل يعيش في أمريكا، ساق تاكاكي سؤالاً على لسان أحد شخوص دراسته، مؤدّاه: ماذا لو أنّ أحدهم وصف مجتمعك، بتفاصيله كلّها، ولم يذكر عنك شيئاً، وأنت تعرف أنك موجود حقّا؟ ستكون وأنت تقرأ هذا الوصف كمن ينظر إلى المرآة، ولا يرى شيئاً، أو كمن ينظر إلى المرآة ويرى الأشياء التي كان ينبغي لصورة جسمه أن تحجبها، ثم يكتشف أنّه لا يرى نفسه! فعجباً من المرايا المستوية وغير المستوية! وعجباً من الصور، وما يؤثّر فيها: الناظرون، وظروفهم ومواصفاتهم، والإضاءة، وعوامل وضوح الرؤية... عجباً.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«7446» ثم أرسلها إلى الكود 82244