في زيارةٍ إلى إحدى العواصم العربيّة، أدهشتني فخامة العمارة، وأدهشني البذخ والأبّهة اللّذان يطبعان أحياء عديدة، ممّا لم أشهده في عواصم أغنى الدول العربيّة. فيلاّت، بل قصور فارهة، بحدائقها الغنّاء، وأسوارها الحصينة، تستلقي على مساحات شاسعة من الأراضي في قلب المدينة، وفي كراج كلّ قصر تقريباً تصطفّ أنواع من السيّارات أتكهّن بندرتها حتّى في بلدانها المصنِّعة. هذا عدا دور الحكومة، ومرافقها، وقصور أهلها، فضلاً عن المساجد ذات الطراز المعماريّ المتميّز، فهي تجمع بين البساطة في التصميم، وبين الترف في انتقاء المواد والأثاث، ابتداء من الحجر والسيراميك، وانتهاء بالسجّاد، والثريّات، ومع ذلك فإن مسجد حارتنا على تواضعه، قد يضمّ في كلّ صلاة ضعفي عدد المصلّين الذين لاحظتهم في مسجد حيّ من هذه الأحياء في صلاة الجمعة!
كنت طوال الطريق مأخوذة بتلك الفخامة، مردّدة بين كلّ بناء وآخر: ما شاء اللّه، لا قوّة إلا باللّه، ممّا نبّه سائق التاكسي الذي كان يأخذني في جولة، قبل أن أتوجّه إلى مهمّتي التي قدمت إلى هذه العاصمة من أجلها، وقد بدا شابّاً مرتّباً، وأنيساً، فبادرني بالقول:
- أأخذتك روعة البنيان سيّدتي؟ مدينتنا من أجمل المدن، وهذا المعمار الفاخر يلفت كلّ السيّاح، ولكن أودّ أن أحدّثك بهذا الحديث!
فقلت: تفضّل، وقد استأنست بحديثه.
قال: كان الخليفة عبد الرحمن الناصر كلفاً بعمارة الأرض، وإقامة معالمها، وتخليد الآثار الدالّة على قوّة الملك، وعزّة السلطان، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء بجوار قرطبة، ذلك البناء الذائع صيته إلى يومنا هذا، وقد انهمك في تنميقها وإتقان قصورها، وانصرف إلى ذلك حتّى عطّل شهود الصلاة في المسجد الجامع ثلاث جمع متواليات، فرأى القاضي الإمام منذر بن سعيد البلّوطي أن يتناوله في الخطبة حين حضوره، عسى أن يرجع عن هذا السرف المفرط. فابتدأ الخطبة بقوله تعالى: (أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون)، ثمّ راح يصل قوله بكلام مؤثّر في ذمّ تشييد البنيان وزخرفته والإسراف في ذلك،، ومستحضراً صورة القبر، مخوّفاً من الموت، مذكّراً بفناء الدنيا وأهلها، وخلود الأخرى وأهلها، مستشهداً بقوله تعالى: (أفمن أسّس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوانٍ خيرٌ أم من أسّس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به في نار جهنّم واللّه لا يهدي القوم الظالمين). وظلّ يذكّر وينذر إلى أن ضجّ المصلّون بالبكاء، ودعوا اللّه ضارعين، تائبين، مستغفرين، وأوّلهم الناصر الذي علم أنّه المقصود فبكى بحرقة نادماً على ما سلف مستعيذاً باللّه وسخطه.
أدهشتني ثقافة السائق بقدر ما أدهشتني فخامة البنيان، فاستدرك بأنه قد تخرّج في قسم التاريخ، ويتابع تحصيله العالي، ولكنّ ضيق ذات اليد، وانعدام فرص العمل دعياه للعمل سائقاً للتاكسي، وراح يحدّثني عن البطالة المتفشّية في البلد، وارتفاع الأسعار، وغلاء المعيشة اليوميّة، والضرائب المتزايدة يوماً، فيوم، ثمّ أخافني بموضوع تفشّي السرقة، وقلّة الأمن والأمان في البلد، فقلت بأنّه من غير المعقول أن يصفّ الناس أمام بيوتهم سيّارات بمئات الألوف من الدولارات، وينامون قريري الأعين، وليس ثمّة أمن! فأخذني إلى الوجه الآخر من المدينة، ولم يكن بعيداً، وهو يعرّض في حديثه بحكّام، كانت الحنفيّات في بيوت خلائهم من الذهب الخالص، ثمّ عاشوا أحياء مختبئين في حفرة أشبه بقبر، فليتّق غيرهم اللّه في النفس والإخوان!
وصلنا حيث أحياء فقيرة وإلى جانبها مخيّم للاجئين مسلمين منكوبين، فإذ المكان غير المكان، والناس غير الناس، الفقر والبؤس يعلنان عن نفسيهما بوضوح: بيوت آيلة للسقوط، ومجارير مفتوحة، وأطفال حفاة عراة يلعبون، ظننت بالكرة، وإذ بهم يلعبون بفأرة ميتة. بالتأكيد راعتني المفارقة بين تلك الكيلو مترات القليلة، فقلت له: أمّا حديث الأمن والأمان فهو عندي، إذ يُحكى أنّ أحد عمّال عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه كتب يشكو إليه خراب مدينته، ويسأله مالاً يرمّها به، فكتب إليه عمر: قد فهمتُ كتابك، فإذا قرأت كتابي، فحصّن مدينتك بالعدل، ونقّ طرقها من الظلم، فإنّه مرمّتها، والسلام.
كانت نهاية حوارنا قد تزامنت مع وصولنا باب الفندق الذي أقيم فيه، وقد عقّد السائق الأيمان بألاّ يأخذ منّي قرشاً، محتجّاً بصلة القرابة بيننا، تساءلت؟ فقال: أليس العلم رحماً بين أهله! فما كان منّي إلا أن أتقبّل كرم ضيافته، ووافر معرفته!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرةSMSتبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244