شكلت الحوارات السبعة التي أدرجها المؤلف تحت عنوان (مبدعون ونقاد) المحور الأول الذي نجد فيه عنصري التنوع والاختلاف، مثل العروسي المطوي وعلي اللواتي أو عبدالقادر بن الشيخ ومحمد لطفي اليوسفي أو عمر بن سالم ومصطفى الكيلاني إضافة إلى الأب جان فونتان.
آنذاك في أوائل الثمانينيات عندما وفد الكاتب إلى تونس كان القسم الكبير من هذه الأسماء حاضراً لذا ذهب إليها وحاورها (العروسي المطوي، علي اللواتي، عبدالقادر بن الشيخ وعمر بن سالم) ومعهم الأب جان فونتان، ثم أضاف إليهما الاسمين الأفتى محمد لطفي اليوسفي ومصطفى الكيلاني، وبذا تكون هذه الحوارات أقرب إلى الشهادات، لا سيما وأن الكاتب وقبل أن يحمل أسئلة إلى أي اسم من الأسماء التي حاورها قرأ نتاجها ثم دوّن أسئلته، وأعتقد أن الحوار بعد قراءة هو المطلوب حتى لا يكون الحوار من طرف واحد فقط، عليه المحاوَر - بفتح الواو - ويتقبله المحاوِر - بكسر الواو - على علاته. كما أن المؤلف ولحكم عمله الطويل في الصحافة وجدناه يبحث عن الأجوبة المثيرة (حوار المطوي) تحت عنوان: (أؤمن بالجن) مثلاً. وهذا الحوار طويل وفيه معلومات مهمة عن الرجل وأفكاره، وكذا الأمر مع (علي اللواتي) الأديب المتعدد والذي عرف في البداية شاعراً ومترجماً، ثم ناقداً تشكيلياً قبل أن تعرف أعماله في الدراما التلفزيونية التي شكلت نقلة مهمة في الدراما التونسية، أو أعماله الغنائية (بالدارجة التونسية الشفافة) والجانب المهم في هذا الحوار ما كشفه عن خلفيات اتهامه لأدونيس حول ترجمته لسان جون بيرس، وكان مقاله في هذا الشأن تحت عنوان مثير: (إعدام خطاب شعري: أو جناية أدونيس على سان جون بيرس) لكنه وفي جوابه عن الأمر رفض أن يزج باسمه في الحملة المضادة لأدونيس في المشرق العربي بشكل خاص. ثم يستدرك ويقول: (وفي اعتراضي على أدونيس لم أفترض أو أستنتج شيئا ما خارج المقارنة بين نص الترجمة والأصل الفرنسي، ولم أخلص إلى أي حكم عام على شعر أدونيس وآرائه). وجاء الحوار مع عمر بن سالم أحد آباء السرد التونسي الذي يقيم بين فرنسا وتونس حالياً معمقاً وثرياً يشكل مدخلا لمعرفة هذا الكاتب الذي أنجز مدونة متعددة في الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، ولعل جوابه الأخير الحامل لكثير من الخيبة يشكل مفارقة كبيرة عندما يقول: (ثمة أصدقاء يعرفونك وتعاشرهم طيلة عشر سنوات وتفاجأ أنهم لم يقرأوا لك شيئا خاصة أنهم من الوسط الإبداعي، وأنك أهديت لهم كل ما طبعته من كتبك، هذا يبعث في النفس شعوراً مراً).
ويذهب في حوار تالٍ إلى الأستاذ الجامعي عبدالقادر بن الشيخ الذي كتب رواية واحدة شدت الاهتمام وتحولت إلى فيلم سينمائي هي: (ونصيبي من الأفق)، أو كما يصفها المؤلف في بداية هذا الحوار (رواية واحدة كانت كافية لاعتباره من أبرز الروائيين التونسيين المعاصرين. ورواية طرحت إشكالات عديدة على صعيد البنية الروائية شكلاً ولغة وأسلوباً ومضموناً)، وهذه الرواية كانت المسوغ للحوار والمحور الأساسي له. ونلاحظ أيضاً أن الخلفية الصحفية للمؤلف جعلته يختار لهذا الحوار العنوان التالي: (عبدالقادر بن الشيخ: أفكر بالفرنسية وأكتب بالعربية) حيث يعترف الرجل للسائل قائلاً: (سأقول لك، أتحدث الآن إليك، وأنا أفكر باللغة الفرنسية، وأجد صعوبة كما ترى وتلاحظ في نقل أفكاري إليك لأني أترجمها فورياً إلى العربية عن الفرنسية في ذهني قبل أن ينقلها لساني).
ثم هناك حواران مع الأستاذين الجامعيين والباحثين المعروفين محمد لطفي اليوسفي ومصطفى الكيلاني. وكان الحوار مع الأول منطلقاً في كتابه (في بنية الشعر العربي المعاصر) ولما كان السائل - المؤلف شاعراً جاءت أسئلته في العمق وهي أقرب إلى كونها نقاشاً منها إلى أسئلة.
أما الحوار مع الكيلاني فعنوانه أيضاً يحمل الإثارة عندما يقول: (لا أعدّ محمود المسعدي روائياً)، ويبدأ المؤلف حواره بمعلومة مهمة هو أنه لم يلتق بالكيلاني ويصبح صديقاً له إلا في بغداد بعد حرب الخليج 1991م حيث شاركا معاً في مهرجان المربد الشعري، لكن المؤلف قرأ للكيلاني عدداً من أعماله قبل هذا. ونجد أن إيمان المؤلف بإبداع الكيلاني دفعه لأن يعهد إليه بكتابة التقديم الوافي لأعماله الشعرية التي نشرها في مجلد واحد بتونس (دار صامد - صفاقس). والكيلاني -وهو الجامعي- يرى في الحوار هذا بأن الكارثة الحقيقية في نقدنا الأدبي العربي اليوم أننا أمام كم هائل من النصوص والتجارب الإبداعية. إلا أن مؤسساتنا البحثية من جامعية وغيرها وجحفل أساتذتنا وباحثينا تبدو عاجزة عن استقراء هذا المتراكم وتوصيفه وترتيبه، والنفاذ إلى سحر أسراره لإثبات فاعلية هذه الأمة التي هي أمة حقاً رغم الادعاء السائد بأنها غير قادرة على شيء.
إن عدد شعرائنا وروائيينا ورسامينا ومسرحيينا وسينمائيينا وعلمائنا في شتى الحقول يؤكد على أنها أمة عظيمة رغم تخلفها السياسي والاجتماعي.
ثم كان الحوار الأخير مع الأب جان فونتان الذي يقدمه المؤلف بقوله (قد تحبه أو لا تحبه هذا شأنك. لكنك لن تكون موضوعياً أو عادلاً إن أنكرت فضله على الأدب التونسي كمؤرخ وموثق في الأقل. بل إنه كان في فترة سابقة أحد أبرز مفاتيح خزانة الأدب التونسي لمن يريد أن يطلع ويبحث ويتعرف وينهل).
ولكن للأب فونتان آراءه وقراءاته وعنايته بأسماء دون غيرها. وهو ومن خلال حياديته خرج بأحكام معينة لا يملك المطلع عليها إلا احترامها.
ثم يأتي بعد هذه الحوارات السبعة الموضوع القديم - الجديد (تونسياً) وهو (حركة الطليعة الأدبية التونسية) وهل هي (جنحة على الأدب العربي أم جناح له؟) -كما ورد في العنوان- وقد أنجز المؤلف هذا الموضوع كاستبيان أجاب عليه كل من الشاعر والباحث الطاهر الهمامي والناقد أحمد الحاذق العرف والشاعر محمد مصمولي والكاتب فتحي اللواتي.
وبدا لنا أن الجواب الوافي جاء من (الطاهر الهمامي) ربما لكونه قد تعمق في الموضوع أكثر من غيره بعد أن أعد رسالة جامعية (ما يوازي الماجستير في المشرق) ومما قاله في جوابه (إن حركة بحجم - الطليعة- لم يكن في مقدور أياً كان من ساسة اليمين أو اليساء اصطناعها مثلما تصطنع -الحركات- اليوم على يد طبقة تستطيع تمويل مصانع ومختبرات ومراكز برمتها لفبركة وتلميع نجوم الفن والرياضة والسياسة. وصنع المدارس والنظريات الفكرية والجمالية تم إغراق العالم بها مثلما البضائع والرساميل وأنماط العيش. تشابكت عدة عوامل ذاتية وموضوعية لإفراز حركة الطليعة).
ويصل الهمامي إلى القول بأن(الهاجس الذي كان يستبد بالكثير من أصواتها بقطع النظر عن مدى تأثير المؤثرات المذكورة والبصمات التي خلفتها هو هاجس نشدان الفرادة عن طريق الخصوصية القطرية).
ويواصل الهمامي الحديث الدقيق هذا بقول: (وسيقترن تفرق شمل الحركة وتلاشيها بعوامل من بينها سقوط التنظيرات الإقليمية في صفوف اليسار بعد التصحيح الخطي الذي شهده حوالي عام 1974م حيث عاد الاعتبار للمسألة القومية تحت ضغط الصراع الدائر تونسياً وعربياً مع الامبريالية والصهيونية وعملائهما).
أما الناقد أحمد حاذق العرف فيرى أن تقييم حركة الطليعة (لا يخلو من الأحادية بل من التجني) ويرجع هذا إلى (ما شهدته في مجرى تطورها التاريخي من الخرافات دون التوقف عند إنجازاتها). ثم يصل إلى القول بأن حركة الطليعة (تبقى حلقة مضيئة في تاريخ الأدب التونسي الحديث) ذاكراً الأسماء التي (خرجت من معطفها) - على حد تعبيره- وهي: (عزالدين المدني، سمير العيادي، محمود التونسي، الطاهر الهمامي، الحبيب زنّاد وفضيلة الشابي).
أما محور الكتابة النسائية بتونس (حقيقة أم وهم؟) فقد جاءت الأجوبة لتؤكد أنه (حقيقة) بدليل هذا الحضور المميز للكاتبة التونسية منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم.
كتاب الشاعر هادي دانيال هذا تميزه حيويته وكم الاستفزاز المقترن بالتوثيق، ومساءلة ما مضى نشداناً لإضاءة الآتي.
- صدر الكتاب من منشورات نقوش عربية - تونس 2008 عدد الصفحات 152 صفحة من القطع الكبير.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902»ثم أرسلها إلى الكود 82244