لا أحد يتعلم من التاريخ
وعندما اختل ذلك التوازن بين قوى المجتمع الإسلامي القديم، اشتعلت الفتنة فيه، لأن ما يُنجح العلاقات الإنسانية في حينها فٌقد، فنجاح العلاقات الإنسانية في المجتمع يرتبط بالتكامل، والتكامل أفيد من التماثل، فليس كل متماثلين متكاملين، والأحادية بمعنى التماثل لا تعني تكاملاً بمقدار ما تعبر عن قيمة معنوية مخصوصة، وإن كان للتكامل أيضا تعبيره الخاص عن القيمة المعنوية المخصوصة التي يحتويها، وهي الشراكة والمشاركة بين مجموع أفراد المنظومة الاجتماعية الواحدة حتى وإن كانوا مختلفين، بما أن شروط عقد المواطنة متوفرة، لكن ما حدث في المجتمع الإسلامي القديم بعد الاكتفاء من مصادر الاستفادة البشرية، ممارسة مقصودة لتصفية المختلف لمصلحة التماثل، باعتبار التماثل ضمانا لاستقرار السلطة في المقام الأول، وهكذا حسابات كان همها الأول مصادرة أي قوة تهدد خطورة القوة الأولى في السلطة في المجتمع، بصرف النظر عن استيعاب ما يمكن أن يسببه اختلال التوازن بين قوى المجتمع من أضرار ثقافية واجتماعية وسياسية، أدت في النهاية إلى تفكك وحدة خارطة الدولة الإسلامية والتراجع العلمي للمجتمع، مقابل تطور ملحوظ في الثقافة اللسانية والدينية، وهذا التطور بلا شك له دلالته التي صاحبت منهج التماثل الذي قررته السلطة السياسية في المجتمع الإسلامي، وهو منهج لم يكن حصريا على الدولة الإسلامية السنية بل والدويلات التي قامت على مذهب غير السني، فقد كانت تمارس ذات التماثل وتصفية المختلف، ومن يعود إلى كتب تاريخ مناهج التعليم في الدولة العباسية وما تبعها من دويلات سيجد معركة التماثل وتصفية المختلف كانت هي التي تتحكم في سياسة التعليم في ذلك الوقت، واندلاع نار الشعوبية الذي تزعمها كبار المثقفين العباسيين أمثال الكسائي والجاحظ، والذي ذهب ضحيتها الكثير من المثقفين العرب من أصول فارسية مثل سيبويه وابن المقفع، إن الدارس لأدب تلك الحقبة سيكتشف أثر التماثل وضرر تصفية المختلف وما ترتب عليهما من إقصاء ثقافة الآخر، لقد كان الانتقام مشترك بين الطرفين، فبينما الطرف الأقوى يقصي كان الطرف الأضعف يسعى إلى هدم مرجعيات الطرف الأقوى الدينية والثقافية الممثلة لحصانة الهوية الخاصة، باسم التجديد.
ولم يكن التماثل والتصفية لوحده سبب اختلال توازن القوى في المجتمع الإسلامي القديم واشتعال الفتنة، بل هناك أسباب عدة، منها، نضوج وتفوق الشخصية العلمية والثقافية الإسلامية على مصدر الاستفادة، وكان ذلك يعني استغناء عن ممثلي مصدر الاستفادة سواء من غير المسلمين في المجتمع أو الطوائف الإسلامية غير السنية التي بدأت تشتد شوكة أحزابهم السياسية كلما ازداد قمعهم، هذا الاستغناء والإحلال فيما بعد للعنصر السني ثم التركي محل العرب الفارسيين والدور الوظيفي الثقافي والعلمي الذي كان يقوم به من غير المسلمين، كانت إشارة إلى البدء بإلغاء قيمة القوة التي اكتسبوها بموجب دورهم الوظيفي الثقافي والعلمي، باعتبار أن انتفاء وجود القيمة يؤدي إلى إلغاء ما ترتب على وجود تلك القيمة، وهو ما عرض المجتمع الإسلامي لحركة انتقام من تلك الفئة وتعاونها مع أعدائه.
والسبب الثاني يتعلق بعيوب الشخصية العربية وأهمها العصبية والعنصرية، ففي بداية الدولة الإسلامية وحتى بدايات الدولة العباسية الأولى انشغل العربي بالفتوحات الإسلامية واكتشاف العوالم المختلفة، فلم يكن لديه وقت لممارسة العصبية والعنصرية، كما أن خضوعه لعمل جماعي في الجيش موحد الهدف والقيمة المُعطاء للجميع في النهاية، يرضي رغبته ولا يترك مجالا للمفاضلة، فالكل يسعى لغاية واحدة فالتنافس خطيّ وليس متقاطعا، وهو ما يعلل لنا نجاح الجيش الإسلامي في أهدافه رغم تنوعه الطائفي، بينما فشل المجتمع الإسلامي في ضوء ذلك التنوع، يعني أن وجود أحادية الهدف والغاية في الجيش الإسلامي صنعت خطية المنافسة فالكل يشترك في الفوز والخسارة، بينما المجتمع الإسلامي كانت العلاقة بين أفراده في تنافس متقاطع؛ لغياب مفهوم المواطنة، المفهوم الذي يوّحد منظومة ذلك التنوّع ويحولها لتنافس خطيّ.
وبعدما انتهت الفتوحات الإسلامية وتمّ الاستقرار السياسي والاجتماعي والثقافي، أدرك العربي أنه ينتمي لأول مرة في تاريخه الممتلئ بمآسي الفرقة والثأر والقتال، إلى دولة قوية واحدة تسيطر على العالم، العالم الذي كان يعيش العربي على هامشه، دون أن يمثل أي تأثير في تغييره وتغيره، وقد أصبح فجأة هو مركز التحكم في تغير وتغيير ذلك العالم.
إن الصدمة الحضارية التي تعرض لها العربي بعد استقرار الدولة الإسلامية، والذي حمله من صحراء جرداء لمدن حضارية، ومن قبلية متعددة وفرقة وجهل وأمية، إلى كيان منظم سياسيا وتجربة ثقافية وعلمية منتجة، أخلت توازنه وتقديره لذاته ومسوغات الإنجاز الحاصل، وبخاصة أنه لم يُخضع لبرنامج تأهيليّ قبليّ لتهيئة استيعابه لذلك الانتقال الجذري، يعني كيف يصبح فرداً حضارياً؟.
صحيح أن النص الديني وفّر للمسلم التهيئة اللازمة لاستقبال التغير والتغيير الجذري الذي سيحدث له فيما بعد، لكنها تهيئة كانت اشتراطية تحفيزيّة وليست تأهيلية، باعتبار أن ضبط السلوك يحتاج إلى تجربة التعايش، (فقه الواقع) وأن النظرية النص الديني مصدر المعايير لا يمكن الاستفادة منها إلا عبر تحوّلها إلى واقع أي إنتاج تجربة يُقاس من خلالها صدق النظرية وسلامتها، إضافة إلى أن النظرية توفر المعايير ولا تحدد الأشكال الممثلة لتلك المعايير، تاركة تحديد الشكل وفق مقتضيات النموذج الموجود المتحول، وهي حرية تساعد المربي والمصلح والسياسي والمثقف على تصميم البرامج تأهيل المسلم كمواطن له دور ومسؤولية يتكاملان مع غيره، وهذا هو الذي فات على مؤسس الشخصية العربية حديثة الإسلام، ليمتدّ الخطأ شاملا الأجيال حتى وقع المحذور.
فالعربي فشل في أن يصبح مواطنا حضاريا في ظل دولة الإسلام القديمة، أي كيف يتعايش ويتكيف مع التنوع الثقافي والديني والطائفي والاجتماعي الذي اتصف به المجتمع الإسلامي؟ كيف يتعامل مع المختلف والمتنوع من خلال منظومة المواطنة وليس من خلال مفهومه له كآخر؟، بعيداً عن فرديته الناتجة عبر العصبية والعنصرية، وهو ما يفسر لنا تقسيم المجتمع الإسلامي إلى طبقتين رئيستين طبقة العرب الخُلص، وطبقة المولدين، وهم عرب المولد والنشأة ذي الأصول غير العربية الفارسية أو الهندية أو التركية، فالعربي ظل يحيط هويته الخاصة بحصانة عروبته وهو ما جعله يفشل في الاندماج مع الآخر، وبعد الإسلام أضاف إلى حصانة العروبة حصانة مذهبه، وكانت النتيجة أن محتويا الحصانة أصبحا محتوى صراعه العرقي والطائفي.
والسبب الثالث يتعلق بعيوب الخطاب السياسي للدولة الإسلامية، ومواقف الخلفاء العباسيين والدويلات الإسلامية من الأحزاب السياسية الطائفية وممارسات تصفية الطوائف الدينية والفكرية الذي فتح بابها هارون الرشيد. وهذه النقطة تحتاج إلى حديث طويل لعلي أعود إليها في مناسبة أخرى.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
-جدة
seham_h_a@hotmail.com