المشهور بين الناس أنك إذا قلت (قرأت الكتاب كلَّه) فإنك تكون قد أكدت الكتاب توكيدًا معنويّاً؛ لأنك كررت المعنى لا اللفظ، فأردت بذلك الشمول حتى لا يفهم أنك قرأت نصف الكتاب أو ثلثه. ولكنك إذا مضيت إلى باب البدل رأيت النحويين يجعلون من أنواعه بدل الكل من الكل مثل (مررت بأخيك زيد)، ويجعلون من أنواعه بدل البعض من البعض مثل (قرأت الكتاب ثلثه). والسؤال الآن، ما الفرق بين المثالين: (قرأت الكتاب كله)، و(قرأت الكتاب ثلثه)؟ أليس الفرق في الكم؟ أفلا يكون قولي (كله) بدل كل من كل، كما كان قولي (ثلثه) بدل بعض من كل، أليس المعنى: قرأت كلّ الكتاب، وقرأت ثلث الكتاب. الذي أراه أن التوكيد المعنوي الدال على الشمول هو بدل كل من كل، وليكن توكيد الشمول غرضاً من أغراض البدل.
والنوع الثاني من أنواع التوكيد المعنوي هو توكيد الذات كقولهم (جاء زيد نفسه) و(ذهب عمرو عينه)، والمراد به نفي كون غيرهما فعل المجيء أو الذهاب؛ كأن يكون الذي جاء رسول زيد والذي ذهب غلام عمرو، وأسند الفعلان مجازاً إلى زيد وعمرو، ولكننا في باب البدل نجدهم يجعلون من أنواعه بدل الاشتمال مثل قولك (أعجبني زيد عقله). أفلا يصح القول بأن النفس من مشتملات زيد كما أن العقل من مشتملاته، وأنه كما قلنا ببدلية (عقله) نقول ببدلية (نفسه)؟ قد يجادل من يريد بأن بينهما فرقاً فقولك (أعجبني زيد عقله) يراد به تحديد المعجب وهو (العقل) فكأنك تُضرب عن زيد إلى (عقل زيد)، كأنك تقول: أعجبني عقل زيد، وأما في (جاء زيد نفسه) فليس من إضراب عن زيد بل هو توكيد ب(نفس زيد). وأنت إن قلت: جاء عمرو عينه فلست تريد جاءت عين عمرو. والجواب هو أن بينهما فرقاً في المعنى، فلا جدال أن المراد بقولي (أعجبني زيد عقله) التخصيص ودفع توهم التعميم، وأما المراد بقولي (جاء زيد نفسه) أو (أعجبني زيد نفسه) فهو التعيين. وليكن هذا غرضاً من أغراض البدل، وليس من شكّ أنّ الفاعل في (أعجبني زيد عقله) غير مقصود بنسبة الفعل إليه، وأما في (أعجبني زيد نفسه) فالفاعل مقصود بنسبة الفعل إليه؛ ولكن هذا لا أراه مما يفسد عدّ المثال الثاني من البدل؛ إذ البدل أن تأتي بلفظ بدل غيره لتحقيق غرض كالتخصيص في المثال الأول والتعيين في الثاني. ونحن نعلم أن للبدل أغراضاً مختلفة منها بدل الإضراب، كقولك: أريد تفاحاً ليموناً، فأنت أردت التفاح أولاً ثم غيرت رغبتك إلى الليمون، ومنه بدل الغلط كقولك: أريد تفاحاً ليموناً، فأنت أردت الليمون أصلاً ولكنك غلطت فتلفظت بالتفاح، وربما يكون في تنغيم الجملة ما يشعر بأحد المعنيين.
والذي أنتهي إليه هو أن ما يسمى بالتوكيد المعنوي بنوعيه توكيد الذات وتوكيد الشمول ليس إلا من قبيل البدل، ولا يكون التوكيد على هذا سوى التوكيد بتكرار اللفظ وهو غرض من أغراض التكرار، فليس كل تكرار توكيداً.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتب«7987» ثم أرسلها إلى الكود 82244