رأينا في المساق السابق ملامح إقبالنا على القفز من نافذة العالم الثالث إلى سطح العالم العاشر؛ من حيث إننا نفتقر إلى خطط استراتيجيّة مرحليّة، تتطوّر خطوة بخطوة، من العنصر الأجنبيّ إلى العنصر الوطنيّ. وزعمنا أننا اليوم نتقدّم إلى الخلف، أي من الوطنيّ إلى (مزيج الوطنيّ-الأجنيّ)، وصولاً إلى الأجنبيّ جملةً واحدة. من مرحلة تعليم الضروريّ من العلوم بلغة أخرى غير العربيّة إلى مرحلة تعليم العلوم كافّة بلغة أجنبيّة، باستثناء مواد اللغة العربيّة والثقافة الإسلاميّة! ويا لهذا الاستثناء الاستراتيجيّ الحصيف العظيم العجيب!
وهكذا تسير مطايانا في مَهامهها، (مُرخاةً لَها الجُدُلُ):
لا تَبعَدَنَّ مَطايانا، الَّتي حَمَلَت
تِلكَ الظَعائِنَ، مُرخاةً لَها الجُدُلُ
سَيرُ الدُموعِ على آثارِها عَنَقٌ
وَسَيرُها الوَخدُ، وَالتَبغيلُ، وَالرَمَلُ
إن فشل تعليم اللغة العربيّة المزري في العالم العربيّ يُراد له أن ينتهي إذن إلى نهايته المأسويّة المتمثّلة في إحلال غير العربيّة محلّها. مع أن تعليم غير العربيّة كذلك لا يقلّ فشلاً! ذلك أن تعليمنا اللغويّ ما زال يلوب في فلكين عقيمين: أولهما فلك القواعد النظريّة لا التطبيق، واللغة استعمال لا قواعد؛ وثانيهما فلك الحفظ والاستذكار، وإنما اللغة إبداعٌ لا حفظ. وإذا كانت المسألة مسألة حفظ، فلقد هزم قرد الشمبانزي (أيومو)- كما تناقلت بعض وسائل الإعلام- طلبةً جامعيّين في سُرعة التقاط المعلومات وحفظها، ليُعلن علماء يابانيّون أنهم تحقّقوا من فوز قرود الشمبانزي بذاكرتها على القدرات الذهنيّة للجامعيّين، بعد أن فاز القرد أيومو في اختبار للذاكرة أجري في معهد أبحاث الحيوانات العُليا في كيوتو. وبعد تجربة الضعف في اللغة العربيّة لدى طلبتنا- للأسباب المذكورة- لنا أن نتصوّر حالهم غدًا مع وجود منافسٍ آخر للغة العربيّة.
وإن من عجائب الأفكار والأفهام والأوهام تصوّر أن ما سيضمن بقاء اللغة العربيّة متوهّجة عالميًّا هو قدرة أبنائها على إنتاج المعرفة وتوليد العلوم، ومن خلال تعليمهم باللغة الانجليزيّة! كذا تفدح العقلَ تناقضاتُ بعض خطابنا الأعشى! أي أن أبناءنا الأحباب سيكونون علماء باللغة الانجليزيّة، ومن ثم ستقوى اللغة العربيّة (تلقائيًّا، وبقدرة قادر)! سنصنع العقول بلغات أخرى، وعندئذٍ فإن تلك العقول ستحمل اللغة العربيّة إلى العالميّة! هل تصدّقون أن هذا الهذيان يُحاجج به بعض المنافحين عن تعليم الانجليزية في مراحل الطفولة المبكّرة؟!
إنه كمنطق من يضع العربة أمام الحصان ويزعم أنه سيقودها من خلفها أمامًا؟ ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن لم يتعلّم بلغته سيكون منسلخًا، حتى عن مجرد الإحساس بلغته- إنْ لم يتنكّر لها ويرميها في سلّة المهملات- ناهيك عن أن يُسهم في جعلها لغةً إبداعيّة أو لغة إنتاج فكريّ، هذا إنْ هي سلمتْ من تشويهه إيّاها بلغته الأخرى. وما أحد مظاهر الضعف اللغوي العربي المعاصرة إلا نتيجة العجمة التي نقلها هؤلاء الضعفاء في تربيتهم اللغويّة، تربية أمّهات أو تربية مجتمع أو كلتيهما. فكانوا بغربتهم تعليميًّا عن روح لغتهم جسورًا إلى عجمة تفشّت في وسائل الإعلام والكتابة والخطاب.
لا يمكن بحال من الأحوال إنتاج المعرفة بلا لغة، ولا يمكن أن تَكتسب تلك المعرفةُ انتماءها إلينا دون أن تكون منتجَةً ابتداءً بلغتنا نحن، لا بلغة غيرنا، ولكلّ لغة عبقريّتها في إنتاج الأفكار. في البدء كانت الكلمة، والعجز الفكري العربي هو عجز لغويّ في الأساس، وليس العكس؛ من حيث إن اللغة هي آلة العقل، وما تنقصنا العقول، لكنها عقول معطّلة الآلة. إلاّ أننا- فيما يبدو- لم نعد نبصر الفروق بين الأسباب والنتائج، ولا بين البذار والثمار؟
لقد كتب (جورج أورويل) ذات مرة، بُعَيْد الحرب العالمية الثانية: »إنّ على المرء أن يقرّ بأنّ الفوضى السياسيّة الحاليّة مرتبطة ببِلَى اللغة...«. وما أصدق هذا القول اليوم على أحوالنا العربيّة كافّة! غير أن العَرَب الآن لا يُدركون مطلقًا المعنى الحضاريّ (للّغة)؛ فالحضارة لديهم: آلة، وأجهزة، ومعادن، وحديد، ونار، ومعارف رياضيّة وعمارات، وشوارع، وفضائيّات.. تلك هي الحضارة، وإن كان ذلك كلّه مشترى لا فضل لهم فيه. وحينما يفقد المرء الوعي بأهميّة اللغة بوصفها المكوّن الأوّل للإنسان والفكر والحضارة يكون قد دَخَل في التِّيه والعَدَم. إلاّ إنْ كانت تلك الغمغمةُ، التي تُعلي شأن المعرفة البحتة على هُويّة اللغة المستعملة، تُبطن القول: إن اللغة العربيّة ليست أصلاً لغة عِلْم ولا لغة فكر علميّ، بل هي لغة دِين، وعاطفة، وشِعر، وأدب، لا أكثر! وعليه، فإن لغة الكِنْدي في الفلسفة، وابن سِينا في الطِّب والفلسفة، والفارابي في الفن والإنسانيّات، والخوارزمي في عِلم الرياضيّات، وجابر بن حيّان في علم الجَبر، وابن الهيثم في علم الهندسة والبصريّات، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، في الطِّب والفلسفة، وغيرهم كثير، ممّن أبدعوا بلغتهم العربيّة، لم تكن لغة عِلْم! مع أن لُغتهم- غير العلميّة!- قد حملتْ عنهم العلوم والمعارف والفلسفات إلى الغرب، وما زالت أكاديميّات الغرب تقتات عليها منذ القرن الثالث عشر الميلادي- والسبب أنها لم تكن لغة عِلْم، ولا حاملة فكر، ولا لغة وظيفيّة كما ينبغي، بل هي لغة عواطف غير دقيقة ولا محدّدة الدلالات، كالانجليزيّة الفاتنة!
وعليه كذلك فإن القول بأن ابن طفيل- مثلاً- واحدٌ ممّن كان لهم تأثير على الفكر الأوربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر- كما طلعتْ علينا به الدكتورة سمر العطّار، الأستاذة في جامعة سدني، في كتابها
(the vital roots of european enlightenment: ibn tufayl's on (modern western thought الجذور الحيويّة لعصر التنوير في أوربا: تأثير ابن طفيل على الفكر الغربي الحديث)- هو محض افتراء، ومجرّد كلام عاطفيّ؛ إذ لا يمكن أن يكون التنوير إلاّ غربيًّا صِرفًا لم تشبه شائبة، بحسب وريث العنصريّة الغربيّة صاموئيل هنتينغتون في كتابه (صراع الحضارات)!
بل إن أمثال المفكّر الفرنسي جان جوليفيه Jean Jolivet ، مدير دراسات المدرسة التطبيقيّة للدراسات العُليا في السوربون، الذي كرّس حياته لدراسة الإسهام العربيّ في الحضارة الغربيّة، منذ رسالته للدكتوراه عن الفيلسوف العربيّ (الكِندي)، هو مجرد أحمق، أو عاطفيّ، أو عميل للمتعصّبين العرب للغتهم، وربما كان شخصيًّا: بعثيًّا، أو على الأقل: قوميًّا عربيًّا! ذلك أنه لم يكُ من طينة مواطنه السالف المستشرق (أرنست رِنان) (Renan)، ولا كورثته من مستشرقي العربان، في النظر بعنصريّة عِرقيّة إلى تاريخ المعرفة، لحصرها في العِرق الآري الأبيض.. (ليس الأعاريب عند الله من أحدِ!)، على قول أبي نواسنا (الحديث القديم)!
لو كان أولئك العلماء العرب- الذين أنتجوا المعرفة ونقلوها إلى العالم أجمع، بعد أن جعلوا جميع الفلسفات والمعارف والعلوم تتكلّم باللغة العربيّة أوّلاً- يفهمون أمثالنا، وكانت هناك في عصرهم وزارات تربية وتعليم, ووزارات تعليمٍ عالٍ، تقرّر عن الناس لغات تعليمهم هم وأطفالهم، وكان الناس منشغلين إذ ذاك كما نحن اليوم بحاجة سوق العمل، المقدّمة على كلّ الحاجات، لعرفوا أن سبيل إنتاج المعرفة والفكر والتقدّم ليس باللغة العربيّة، ولكن بأن ينتجوا أفكارهم بالسريانيّة أو اليونانيّة أو الهنديّة أو غيرها من اللغات التي ترجموا عنها، وعرّبوها، وصهروها في ثقافتهم، ولم يرتموا في دهاليزها، أو يذبحوا أطفالهم قرابين على أعتباها، أو يُذيبوا مُقَلَهم وحناجرهم في تبجيلها، تحت ذريعة مستقبل الوطن الواعد والمتعلّق بحبل سريّ للغة الأجنبيّة، فقط لا غير! لكنه الوعي الغائب بالأمس عن كل أولئكَ، غيبته عن كلّ هؤلاء من معارضي تعليم العرب بغير لسانهم ولسان قومهم اليوم!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* عضو مجلس الشورى
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net