لم يتخذ الحديث عن شيء ما حدث الظاهرة مثلما أخذ موضوع الرواية الخليجية، وخاصة الرواية في السعودية. فقد أسهم النشر واقتحام التابوهات بتشجيع من كتبها على استحياء ومن سطرها وخبأها في الأدراج إلى حين اللحظة المناسبة.
* وقد نتساءل عن أسباب اتجاه الكتاب من الشباب إلى هذا الجنس الأدبي عن غيره من الأجناس الأدبية والفنون، والإجابة لأسباب متعددة لا تتوقف عن سبب واحد كطبيعة الأشياء المسببة. فمن هذه الأسباب انحصار التعبير عن الذات في هذا المجال وانعدام المجالات الأخرى بأبوابها المغلقة التي تستهوي الطموحات الشابة التي أقحمت نفسها في الكتابة وهي في نصف أو ربع موهبة. فحينما ننظر إلى فن السينما وهو الفن الأول ذو الجاذبية الخلاقة ويتواءم مع ثقافة الصورة في هذا العصر - هنا هذا الفن يوصد أبوابه أمام الإبداعات القادرة والتي قد تكمن فيها مواهب تفاجئنا في فيلم أو مسلسل نشاهده عن طريق الصدفة.
* أما الفنون الأخرى كالرسم والموسيقى والغناء والمسرح فلم تجد المناخ المناسب لصقل المواهب العارية من الوساطات، بل وإن وجدت فإن المتلقي يشيح بوجهه عنها لأن المبدأ لا تفاوض فيه. أما بالنسبة للرواية، وإن اثقلت بالتابوهات فإنها تتسلل خفية لدى المتلقي لأنها (كتاب) ومهما امتلأ بالممنوع فإنه سيظل ورقاً وكبقية الكتب، والشعور بالذنب لا يتخذ منحى بعيدا كالفن المشاهد أو المسموع، لأن الأول يظل في مساحة الفكر غير المحسوس الذي يراوح العقل بين سجال ومهادنة، أما الثاني فإنه محسوس بالرؤية والسمع ولا مجال للفصال فيه، ولذلك بقيت الرواية الغرفة المغلقة التي يبوح فيها الكاتب بكل رؤاه ولواعجة مهما كانت مصادمة، بل ومهما كانت تافهة من الناحية الفكرية والفنية، فهو يلقي بها ويهرب ثم يراقب من بعيد. وأكثر من يمارس ذلك أصحاب التجارب الأولى التي اتخذت هذا الفن وسيلة للتعبير عن مكنونه فقط وليس غاية فنية وجمالية يمتع بها قراءه ومتلقيه.
* ومن الأسباب التي حشرت الكتاب الشباب في هذا المجال هو سهولة الكتابة الأقرب للحكاية الشفهية المسجلة، في حين أن الكتابة النثرية الراقية تتطلب ما يتطلبه الشعر والمسرح وكل فن أصيل ذي قيمة فنية ممتعة. فالجميع يتقن الثرثرة والكلام المجاني الإنشائي، لكن المحك في القيمة الفكرية والفنية التي يمنحها الكاتب بعد عنت ومشقة وطول تجربة وصبر ومران وقد يفلح أو يخيب.
* ولذلك شجعت دور النشر هؤلاء الشباب والشابات بما عندهم ملوحين بعلم الشهرة والضجيج الإعلامي وإثارة الجدل وتماس ذلك مع روح المراهقة وربح المجد السريع وإغراء الصور وتسطير المانشيتات واللقاءات الصحفية ومواقع الانترنت. ودور النشر تلك تدرك تماما المرحلة التي تعيشها في هذه الفترة مستغلة رغبة الكاتب والكسب المادي الذي لم تحلم به قبل سنوات، فقد أدركت التسامح والانفتاح الثقافي والإعلامي النسبي في السعودية خاصة عندما تعي أن الكتاب لن ينجح إن لم ينشر في السوق السعودية، فلا تزال مجتمعاتنا بكرا ولم يصبها الترهل، والقارئ والمواطن العادي مستعد للشراء بشراهة يغريه سهولة تناول الكتاب وتداوله بعد أن كان يسافر مسافات للحصول عليه فضلا عن الرعب الذي يعيشه كلما أقبل على الرقيب في المطارات أو الطرق البرية.
* ونتيجة لقلة الناشر المرحب بالبدايات المبدعة أقول وعن تجربة راحت كثير من دور النشر تمارس إذلالا فظيعا مع كتاب الرواية الجدد بدءا من المماطلة المهينة التي تمتد لسنة أو سنتين، إلى طلب دفع مبلغ مرتفع جدا يفي بما قد ينتج من فشل أو خسارة للرواية. وبالمقابل هذه الدور الجشعة ترحب بالروائيين الذين قد يدروا عليها ربحا ماديا على حساب ذائقة القارئ مهما كان العمل الروائي في درجات الانحطاط الفني والفكري.
* فمن تجربتي أن دار نشر معروفة، يحدثني مديرها، استقبلت عمل كاتبة شابة ففوجئت - دار النشر - بمدى الضعف والهزال والركاكة في روايتها إلا أنه ربت على كتف الفتاة ووعدها خيرا لأن العنوان مغر ولن يفوت الدار بأي حال من الأحوال! وبعدها مكثت دار النشر بالتعاون مع الكاتبة أربعة أشهر متواصلة للتصحيح والتعديل والحذف والإضافة لتخرج الرواية في نسختها النهائية! هذه الفتاة رأيتها في ركن الموقعين على مؤلفاتهم في معرض الكتاب تعتذر عن التوقيع لأن (خطها ضعيف)، فقامت أمها بالتوقيع نيابة عنها..!
* كاتب شاب معروف قامت دار النشر بحذف مقتطفات من روايته لتتمكن الدار من إدخال العمل - الرواية - لمعرض الرياض الدولي، ولما اتصلت على مدير دار النشر لطبع روايتي الأولى وقصصت له تلك الحادثة أبدى أسفه من الاشاعات الكاذبة مع أن القصة سمعتها من المؤلف نفسه.
* ودار نشر معروفة طلبت مني (بداية) أن أرسل المبلغ أولا! وعندما توافق على طبع الألف نسخة فإن الدار ستأخذ سبع مئة نسخة والمؤلف - أنا - ثلاث مئة نسخة!
* وعندما يرضى الشاب السعودي بذلك فلأنه لم يجد مناصا من ذلك فالحرية في التأليف لاتزال محدودة، ودور النشر ضعيفة الطباعة وهزيلة في التوزيع، والقارئ - في الغالب - لا يثق في الغنى الفني والابداعي إلا بما هو وافد من دور النشر العربية.
* طبعا هكذا هي دور النشر منذ اختراع الطباعة، واقرأوا قصص الروائي الروسي العظيم دوستويفسكي مع دور النشر التي أوقفته على حافة العدم، واقرأوا قصص برنارد شو، واقرأوا مقال ماركيز عن حكايته مع دور النشر الجشعة المفترسة. لكن عندما نتأمل واقعنا الثقافي ومسألة العرض والطلب نجد تشويها للحقائق وتضليلا للعامة في تمييز الجيد من الرديء، ولم تكن هناك طريقا منطقية تضع كلا في مكانه، وللأسف دور نشر راقية دأبت على نشر الوضيع، ومؤلفون ممتازون يلجأون إلى دور نشر مبتدئة أو متواضعة فتحكم على أعمالهم بالموات ما لم ينتشلها ناقد أو صحيفة أو دار نشر شهيرة في الطبعة الثانية.
* إن الكاتب السعودي المبتدئ لايزال حملا في غابات دور النشر الجائعة التي لا ترحم من الابتزاز إلى تجاهل الكاتب ومطالبته بحقه بعد الطبع والنشر. قليل من الحرية والتسامح والتشجيع، وشيء من الثقة بدور النشر الداخلية قمينة بعودة الطائر إلى عشة والرضيع إلى ثدي أمه.