أصبحتهم السماء بمطر، حتى أهلكهم الطوفان عن بكرة أبيهم.
وعلى شاهد قريتهم وقد غدت قبرهم الكبير، كتب كبير الحكماء لذلك الزمان:
(إن كان صاحبكم قد انتحر, فقد صدقتم الكاهن, وإن حرمتم الغيث فلينظر أحدكم لخطيئة نفسه).
* * *
جلس في مجلس الرعاة يستمع لأسعار الشعير والأعلاف، وفي عملية هوائية بدأ يحسب: كم تبقى له من سعر قطيع الماشية التي باعها بالأمس؛ ليسدد بها ديون شعير الموسم الماضي؟
وحسب في عملية أخرى كم عليه أن يبيع أيضاً ليستطيع أن يأتي بشعير هذا الموسم ليشبع أغنامه؟
يالموجة الغلاء هذه -كان يفكر- متى ستنتهي؟
إن الأغنام ضعيفة للغاية، لن تُباع بسعر جيد، فكر بيأس أيضاً.
وفكر في المدينة، حلم يراود أحلامه منذ الصغر: هناك سأجد خيرا وفيرا.... لو بعت قطيعي وذهبت؟
لربما أنشأت تجارة ما.
انفض المجلس، وسحبه نفسه لبيته الصفيحي عند الجبال، استلقى لينام إلا أن ذبابة مأفونة لم تكف عن الطنين عند أذنه، والتعلق بأرنبة أنفه.
مخنوق، فكر: أي امرأة تستطيع العيش في مزبلة الحياة هذه، وتشاركني حصيري؟
وأغمض عينيه، فجثم على قلبه وجع انتظار دام ثلاثين سنة، تمنى في ساعات محنها لو شاركته الفراش امرأة.
في الصباح أيقظته حرارة الفرن الصفيحي الذي نام فيه، وقد اشتدت الشمس عليه، تغسله بالنار من ساعات الصباح الأولى.
غارق بالعرق قام، ولم يغتسل منذ ثلاثة أسابيع ماضية، غسل وجهه بالماء ونظر للشمس يفكر: ما الذي جئتِ تمارسينه اليوم؟
وشعر أن الوجود يعاديه فشمر عن ساعده المفتول، وقال لنفسه: ولكن سأقاتل.
وإذ كان يمشي والسموم على أشده تذكر أحاديث الرعاة بالأمس:
(الجو حار غداً والعاصفة قادمة، هكذا تقول النجوم الليلة)... لكنه واصل المشي خلف غنمه، مستمداً عزيمته من الشمس، تلك التي لم تكف يوماً عن تحديه وهي تصلي أجسام أغنامه فتقتلها من العطش، دون أن يستطيع توفير مكان ظليل لها.
كانت أغنامه تنزوي يميناً وشمالاً بحثاً عن الظل؛ فحوت بعض غنيمات له في ظل الجبل من الشمال، وتبعتها بقية الغنم.
اشتد يطاردها، محاولاً منعها من المكث هناك، وأصر عليها وهو يلهب أجسادها بعصاه: هيا للمرعى، تباً ليس لدي ما أطعمه لك، تباً خذي رزقك من الأرض.
لكن الغنيمات ما تقوم قليلاً إلا لتعود.
كان المدى صحراء، ولم يكن في تلك البقعة من الأرض سوى رمال تتوسل للشمس أن تكف عن ممارسة وجودها العنيف على كيانها، وتحاول ترتيب هدنة لعل الشمس أن ترحم.
شتم الراعي أغنامه بكل ما وجد في قاموسه من شتائم، ثم استظل بالجبل إلى جوار معزته المولودة حديثاً، وهو يظللها إلى جوار بطنه!
ثلاث سنين مرت والقحط لم يغادر قريتهم، وأبت السماء أن تغيثهم، ولا الأسعار كفت عن الارتفاع.
وفي ذات صباح حل البشير بالقرية، وتنبأ منجمهم: غداً يموت فيكم رجل مشؤوم وإذا مات جاء الخير ونزل المطر!
أما هو فما زال هناك عند الجبل يسايس الشمس، ويتوسل للريح، فلم تصله البشارة.
القرية منذ أسبوع تتناقل قول الكاهن، وتشير بإصبع اتهام ينتقل من رجل إلى رجل، والموت في كل يوم يحصد رجلا جديدا، ورغم ذلك لا ينزل الغيث.
يكرر شيخ القرية، وخلصاؤه من الرجال العودة للكاهن، يتوسلون له: أما ترى ما فينا من النصب، أخبرنا بالمشؤوم نقتله. ويرد الكاهن قولهم: لم تخبرني النجوم بصورته، غير أنه يموت قريباً.
يزمجر شيخ القرية بحنق مكتوم: في كل يوم تقول لنا يموت من الغد الرجل المشؤوم، وها نحن في اليوم السابع وما نزل المطر.
وتابع أصحاب الشيخ غاضبين: ومات رجال كثر طوال سبعة أيام وما نزل المطر.
أجاب المنجم بحزم: لم يكن فيهم رجل مشؤوم، ولكن ساعة صاحبكم قريبة، هكذا أخبرتني النجوم.
يدفعون له أحد معيزهم -أهزل من سابقاتها- ويخرجون، ثم يوزعون للمنتظرين في الخارج من أتباعهم: أمل جديد حازم.
* * *
أسبوع ولم يسمع البشارة، جف جلده، وبرزت عظامه، والشمس ما زالت تبارزه كل صباح بألف سيف مسلط!
فلما هدأ الأمر وافتقد الرعاة صاحبهم، ذهبوا إليه، فوجدوه جاثياً على قدمه إلى جوار معزته الصغيرة بالأمس والتي شاخت فكانت آخر قطيعه موتاً، وفي يده سكين ملوثة بالدم، وعيناه شاخصة نحو السماء.
لم يتحرك لاستقبالهم، وعندما هزوه بعنف، صرخ: يا سعيد، جعنا أسبوعاً وما كان لي ولها إلا سبعة أرغفة، تقاسمناها سويةً حتى الرغيف الأخير، كنت جائعاً بشدة -وذب عن وجهه الذباب، وفاض دمعه- فأكلته وحدي وذبحتها.
هام بنظره بعيدا وقال لنفسه بصوت لم يسمعه سواه، وكأنه للتو يكتشف هذا: ذبحت حبيبتي!
يا سعيد ماذا يفعل الراعي بلا خرافه؟
نحر نفسه قبل أن تصل إليه يد رجل منهم، وقبل أن تنزل دموعهم أسى على كبير مصابهم به، نزل المطر!