إعداد : محمد المنيف
لا يُمكن لنا أن نتجاهل أو أن نغض الطرف عن أن ما يتم في الساحة التشكيلية اليوم لا يتعدى العمل الفني.. اللوحة أو المنحوتة أو أياً من فروع هذا الفن بشكلها ومحدودية مضامينها وقصور في فهم ما أُنجزت من أجله، لهذا أصبحت المعارض التشكيلية تنافس الأعراس وحفلات التخرج يُدعى لها القريب والبعيد ويُسمح فيها باصطحاب الأطفال.. كما أن ما يقوم به البعض في إطار خدمة الساحة التشكيلية ودعمها لا يتعدى دوره مساحة توجيه الدعوة وتجميع اللوحات دون وعي بما سينتهي به أمر واقع الساحة الذي يتطلَّب نقلة قوية مؤثرة، قوامها ثقافة تتوازى مع ما ينتظر هذا الفن من منافسة عالمية يتوجب على القائمين عليها ترقُّب الجديد وتهيئة الواقع لمسايرته.
ثقافة المؤدي
يغيب عن الكثير أن الفن التشكيلي لغة بصرية تُقرأ بالعين وتترجمها العقول بناءً على ما يأتي من المنفذ للعمل ومستوى فهم المتلقي لهذه اللغة مثلها مثل أي لغة مقروءة تتشكَّل من سلسلة لا نهاية لها من المصطلحات والمرادفات التي تمثّلها الألوان والخطوط والرموز إضافة إلى بناء العمل الفني بين الكتلة والفراغ تصل في نهايتها وفي حال تكاملها إلى التعبير عن الفكرة والمعنى الذي يبتغيه المتحدث الذي يمثله الفنان ابتداء من الفكرة.. مروراً بصياغتها بالتأكيد على مدلولاتها بشكل مترابط يصل به إلى جوهرها.. من هنا نضع الأصبع على موقع الألم وهو ثقافة الفنان من خلال قدرته على استيعاب مكونات لغته، وتمكُّنه من الربط بين مكونات هذه اللغة ليشكّل جملة مفيدة يمثلها أي من فروع الفن التشكيلي، قطعة نحت أو لوحة مسندية أو عمل تطبيقي.
احتمالات البحث عن إجابة
إن توظيف واستخدام وإيجاد الرابط والعلاقة بين مكونات اللغة التشكيلية هي أعلى حالات الإبداع التي تكشف أبعاد ثقافة المبدع وتبيِّن حجم مكتسباته المعرفية حول منتجه.. كما أن العناصر الفنية والقيم الجمالية التي ينتهي إليها العمل الفني إن لم تدفعنا إلى أفق اكتشاف معنى ما، أو تبعث فينا الدهشة وتحرضنا على طرح الاحتمالات وإيجاد الإجابات فلن تكون عملاً إبداعياً.
وحين تسجن الفكرة في حدود مفهوم العامة فإنها تفقد حرية التعبير عن ذاتها.. وتدفع الممارس للعمل الفني إلى انتقاء سبل التعبير المقبولة.. وتبقي المبدع في حدود ضيقة لا يمكن أن يتجاوزها الفنان.. يقابل ذلك الحاجة الماسة لوعي اجتماعي تصنعه المؤسسات وتدعم الارتقاء به كجزء من وعي الفرد ابتداءً من حياته اليومية وبما يطرأ عليها من تبدُّل وتغيُّر يعتبر الفن رافداً من روافدها.
وعي الفنان بسبل التعبير
لقد أصبحت سبل التعبير في المعارض التشكيلية العالمية أكثر حضوراً من وعي بعضنا بمنجزه فأصبح أمامنا الكثير من الأعمال الفنية المتعددة الشكل والمتنوعة المضمون، الصورة بكل تفاصيلها, المجسمة منها أو المركبة تسبقها الفكرة بغموضها ووضوحها... إلخ.. مع ما صاحبها من تقنيات تشكيلها من المواد الصناعية، والبيئية, القابل للإزالة (الوقتي) كما هي الأعمال المفاهيمية التي تزخر بها البيناليات الحديثة، أو الثابت (المتحفي) الذي يمكن نقلة والاحتفاظ به, تقدم في مساحات من الفضاء الخارجي المفتوح والفضاء المحدود.. جمعت فيها فنون الواقع وفنون الخيال (الفنتازيا).. بعضها خارج عن المألوف والآخر أقرب للمنطق منه للخيال.. البعض منها مختزل إلى حدود السذاجة وكثير منها يصدمك بتفاصيل تدفعك للتفكير والبحث.
القواسم المشتركة
تلك المظاهر في سبل التعبير لا يمكن أن تكون شبحاً أو غولاً يخيف تحرك الفنان التشكيلي نحو المنافسة مهما اختلفت وجهات النظر بين القبول للجديد رغم خروجه عن العقل والمنطق، وبين التمسك بما عرف من الأساليب التقليدية فمن خلال ثقافة الفنان ووعيه بواقعه سيكون أكثر تعلقاً بهويته تجاه ما أحدثته المعاصرة الموسومة بالعولمة الثقافية من استحكام, وما تحمله من مبالغة في الخصوصية إلى مرحلة النرجسية مع ما علق بها من كآبة.. ومع ذلك لم يكن لها أثر بالغ على الفن الياباني أو الصيني أو الهندي والإسلامي الذي استلهمت منه رموزها التعبيرية إلى حد الإبهار, كما يجب أن لا نكون معزولين عن الجديد الذي يستحدثه الغرب, وإنما نتجاوب معه بمكتسبنا الثقافي مهما كان هناك من فوارق في الموروث أو الجغرافيا أو التاريخ.. كما أن الإبداع التشكيلي لا تُقاس جودته بالكم والكثرة, بقدر ما يحقق من رقي وصناعة الذائقة.
إن الساحة التشكيلية المحلية في هذا الواقع المتحرك والمنافس على المستوى الإقليمي عربياً والدولي عالمياً يحتاج من التشكيليين أنفسهم التحرك نحو مفهوم الثقافة التشكيلية والغوص في روافد العمل الفني المتعلقة بمفهوم الجمال ومفهوم العمل ذاته وأسس بنائه عوداً إلى الدراسة والبحث في تجارب من سبقونا واغتراف المعرفة من مؤلفات تتضاعف يوماً بعد يوم في مجالات هذا الفن، ومن المؤسف أننا ندور حول أنفسنا موجدين حدوداً مغلقة من قصور الفهم تجاه الحال التي يعيشها هذا الفن في وقت أصبحت فيه المنافسة تعيش في فضاء كبير لا حدود له شاملة مختلف المساحات وتجاوزت كل الحدود الجغرافية والثقافية والاجتماعية سعياً للدخول في أهم ما يُمكن الدفاع عنه وهي القيم التي يمثلها إرثنا الأصيل.
الحاجة للمغامر
يجبرك بعض التشكيليين على احترامهم نتيجة إخلاصهم لإبداعهم ومعرفتهم كيفية اكتساب الثقافة والوعي بتحرك الآخرين يظهر ذلك في ربط أحزمتهم والسفر لحضور المناسبات التشكيلية محلياً وعربياً ودولياً، فهناك من الفنانين في الرياض نرى ونسمع عن حضورهم معارض في القاهرة، أو إحدى دول الخليج ولتكن معارض الإمارات المتحدة الأبرز مقصداً للكثير من هؤلاء مع ما يتم زيارته وحضور فعالياته من معارض في المغرب العربي أو في الدول الأوروبية كل حسب قدرته وإمكانياته متحملين تبعات رحلاتهم سعياً لمعرفة الجديد موجدين علاقات مباشرة مع التشكيليين في كل موقع يحطون فيه رحالهم، وهناك من وجد في سبل التواصل الحديثة عبر الإنترنت علاقات كبيرة مع فنانين وصالات عرض ونقاد استفادوا من آرائهم حول أعمالهم مع ما اغترفوه من منابع النقد العالمي والعربي وما ينشر من قراءات أو دراسات عن الفنون فأصبحوا عارفين لحالهم ومتلمسين أفضل السبل لتطوير الذات..
لقد سنحت الكثير من الفرص للاطلاع على جديد الفنون في العالم كان أقربها ما تم في محيطنا الخليجي متمثلاً في معرض بيت بونهامس الدولي للمزادات الذي أُقيم في دبي قبل أيام، وهو واحد من أعرق وأكثر شركات التعامل في القطع الفنية رسوخاً في العالم عرضت فيه نحو 200 قطعة فنية مختلفة من العالمين العربي والإسلامي مع ما استضافته دبي أيضاً من مزادات عالمية ضخمة مثل سوذبي وكريستي مع ما يتم حالياً من إنشاء أفرع لمتحفي اللوفر وجوجنهايم في العاصمة أبوظبي مع ما تشهده الساحة الخليجية من تحرك مرن وسريع تجاه العالم يبقى الفن المحلي في حدود قاعات عرض متواضعة لا تتعدى خدمتها حدود أفراد معينين لم يعد لديهم تجاهها أي حماس أو تفاعل.