ديواني
د. حمد الزيد
95 صفحة من القطع المتوسط
حسناً اختار العنوان لهذا الديوان (ديواني) أعطى له فسحة الاحتواء دون قيد .. دون حصر لما يدور داخل صفحاته .. دون ربطه بمنحى محدد تبحث عنه فما تجده .. أو تجده بعيداً عن لافتة كبيرة رسمت على غلافه ..
(الساعة) بدأت دقاتها تحصي لنا مساحة ومسافة الرحلة .. ولكن بلغتها المقروءة والمسموعة:
كمطرقة تدق على سكون القلب مخبولة..!
وتصرخ بي: إلى صخب الحياة اذهب كمجنونة.!
وهيا - أليس قناع الزيف جدف دونما مركب!
نافق كل قطاع الطريق، ومن أهواؤهم قُلَب!
ضاقت بصيرته بالمشهد .. التمس لبصره النعاس دون مكسب .. حتى ولو تخيل فيه المكسب ..
دعيني أشخد الساعات إني للسبات أرغب
فإن النائمين اليوم سعيدو الحظ والمطلب!
سبات الجسد مطلوب لأنه الغذاء والراحة لتنشيط خلاياه .. أما سبات الإرادة .. فدونه المذلة .. والموت يا عزيزي .. شاعرنا يأبى إلا أن يكون حياً يتحرك على أكثر من اتجاه .. وتوجُّه .. عاد به حنينه إلى تربة الأجداد .. ماذا وجد؟!
أعود بعد غربة الأعوام كالسراب ..
أثير فيك لوعة الغياب ..
اعفر الجبين بالتراب
بعد أن أكل الدهر عليه وشرب .. عاد اشمطا، شاحبا، جائعا، لا خيل لديه ولا مال ..
قد كنت ها هنا طفلا نقيا لا تقيدني القيود
أحب كل شيء ..
قلبي صفحة من النقاء والسعود ..
في لهفة واشتياق العودة .. وفي زحمة الذكريات الجملية يسائلها:
يا تربة الأجداد هل لي على ثراكِ من مكان؟!
خالٍ من الرجس الذي ألفته، خال من الهوان..!
لا لوم عليك لا تثريب
فأنتِ تنبتين النخل، والصبار، واليعثوب
وفيك تورق الأشواك، والحنظل، والطيوب ..
هكذا الاعتراب يحن إلى المنبع .. إلى نبت الذكريات الطفولية .. إلى براءة الحياة، وبساطة الحياة .. وعفة الحياة .. وكما غنى لتربة أجداده غنى لأمسه بنفس الإيقاع والاشتياق والحنين .. لعله يجد الربيع الذي ينتظر:
ها أنتَ عدتَ يا ربيع من جديد
تنفس النوار، والجلنار، والزهور
تضوعت نسائم الربى بصارخ العطور
فأسكر العبير شاعر الطيور
ورتل الألحان في خمائل الشعور
يبدو أنه كان يحلم بعودة ربيعه الذي لم يُغير من ملامح عالمه شيئا.!
متى تعود يا ربيع والإنسان في الدنيا بواقع سعيد؟
حرا يعيش دونما ظلم ولا قيود..
لا شيء سيتغير .. الرياح العاصفة مواكبة لأمطار الربيع .. لن تلقى عالما أفلاطونياً .. ولن تجد عالماً شيطاناً .. العالم بين هذا وذاك ..
(الحيرة) تستبد بشاعرنا .. تتلاحق علامات استفهامه:
وامسك القلم، تدور في مشاعري عوامل بلا صور
وامسك القلم، وفي الفؤاد ما به من ألم؟
يا ليتني صخرا .. وليت قلبي من عدم!
ما هذه القسوة المتوحشة .. القلم العاقل يحوِّل الألم إلى أمل، وعمل .. هلاّ أعدت حساباتك وأعطيت لقلمك جرأة البوح .. وجرعة المثابرة بعيداً عن أمنية الموت بالتقسيط .. أنتَ القادر على هذا .. أعطنا حروفا من الحب بنفس القدر الذي أعطيتها لأفق الأصيل حيث قلتَ:
وفي الأصيل يا حبيبتي ذكرت كل شيء بيننا بحرقة الوداع
الشاي، والدفاتر التي أحبها، وصوتك المنساب بالتياع
وتتقافذه حمم الحب دون رأفة:
أحبكِ جدا كأني أراك لأول مرة
أحبكِ جدا كأني أراكِ لآخر مرة
يفرخ حبك فيَّ .. كما يلد الفكر مليون فكرة
جميل هذا التوصيف .. والتوظيف للمفردات ..
تحاصرني الذكريات في كل زاوية وتسحقني كل لحظة
ولأن عودة الليالي السعيدة ما برحت في علم الغيب ندع الذكريات في حصارها ولكن دون سحق ..
شاعرنا المفتون بحبه طرح أمامنا عشرات الظباء لكل ظبية قصيدة احترنا جميعاً ونحن معه في صحبته أيها نختار، كنا بالنسبة إليه (خراش)
تكاثرت الظباء على خراش
فما يدري خراش ما يصيد
ولأن التحدي يلاقي قبولاً في بعض حالاته كانت هذه الوقفة.
قولي لهم، قولي لهم .. أحبه، أوده
إن شئتم، وإن أبيتم .. قولي لهم لا تفزعي،
أحبه، أوده، وهل يحب الطير إلا الأيك والنجوى..
أحبه برغمكم .. لأن الحب أقوى .. حتى من الغناء..
للزيد قنديل لاهث يفتقر إلى الزيت حتى لا يخبو:
قنديلنا .. بل يا ضآلة الافصاح
يا واقعا يلوح في الظلام يسطر الشقاء على الحيطان المرمدة
مدادك الدموع لا الشحوم
دموعنا لهاثك .. الآهات من قلوبنا
فأنتَ منا .. أنتَ نحن..
بانطفائه تنكفئ الكثير من المعاني .. لأنه رمز ابصار .. شعار نور..
(محاولة فهم) لا ضبابة فيها:
أنتَ جدير أنت تفهمني دوما
أنت جدير أن تفهمني
إن أنا أعربت فإنك تفهمني ..
أو أنا أعجبت فوجدانك يفهمني
إن أنا أطرقت، أو حركت شفاهني
هذه المقدمة لما يمكن فهمه:
أنا لا أرجو نشبا ..
أنا لا أطلب جاها
أنا لا أغبط أحدا ..
أنا لا أحقد أبدا
لم أمدد للغير يدا ..
لم أسجد إلا لله الأعلى
لكني محروم دوما ..
حرماني أن تفهمني
لقد فهمناك .. أما هو فدعه لضميره .. إشارة عابرة إلى الشطر الأول من القصيدة (أنت جدير أنت) تلافياً للتكرار الأفضل أن تأتي الثانية (أن)
ومن محاولة الفهم التي حاولنا بدورنا فهمها تتملك شاعرنا الحيرة .. هذا ما عبّر عنه في آخر أبياته .. وفي لحظات بياته:
يؤرقني الهوان وكل عسف
وظلم فاضح، لا أستسيغه؟
وأوباش علوا فوق الثريا
وأفذاذ هووا بدنا بئيسه
أحاول فهم ما يجري، ولكن!
يفر الفهم في دنيا تعيسه؟
علامات الاستفهام هنا لا مكان لها .. المكانة لعلامات التعجب(!!) .. أما حيرتك .. وحيرة الآخرين معك فأمر لا يحتاج إلى حيرة .. بل إلى نظرة متعمقة في مجرى الحياة وفي فلسفتها الصارخة التي تقول (حق القوة أمضى من قوة الحق) .. واقع لا يمكن إنكاره .. وإنما استذكاره معك وأنت تتحدث بلغة الآهات عن واقع الوطن العربي الكبير، من محيطه إلى خليجه:
أواه، يا وطني العظيم بكيت بالقلب الكبير
إني أخاف عليك من طعنات غر، أو حقير
إني أخاف عليك من الجفاف، من الهجير
المقطع الثالث يفتقر إلى الضبط الإيقاعي .. يمكن ذلك بإضافة كلمة (من قهر الجفاف) أو (من لسع الجفاف) أو ما في معناهما .. المشهد أمام عينيه قاتم قاتل .. الصبح توارى خلف ستار الدجى .. هو وحده يتوجع كمن يطأ بقدميه على جمر:
أبكي دموعك بالدموع ..
وليس لي أيدي تجور
لتحكم الأغلال عنك
وتغرس الأمل النضير
وتدوس أعداء الحياة
الناقمين على السرور
الإجابة على شكوى البلوى أعطاها بيتك الأخير الذي لا يحتاج إلى إضافة.
إما حياة من أعالي الشهب، أو دنيا القبور
ولكي نصل إلى حياة الشهب لا بد لنا من صواريخ عابرة للقارات .. وأقمار صناعية .. وعقول منتجة لا مستوردة.
(رثاء) بنبرة حزينة مليئة بالشكوى صاغ أبياته:
بكارة الأشياء فضت
وفقد الزمان، والمكان عذريته
وصار كل شيء كومة من الخراب
حتى الشفاه طعمها انتهى من لثمة التراب ..
لا عذرية لوطن كما لا عذر لمواطن وهو يشهد بأم عينيه ما يجري على أرض فلسطين، وما بين النهرين .. وما بين نهر البارد ونهر البداوي في لبنان .. وفي أكثر مكان .. المكان، والزمان، والإنسان مستباح .. البكاء عند الأطلال يزيد الوجع .. ويعمق جذور المأساة لا المواساة.
لضيق الزيد من واقعه المر إضاف المزيد من ندوبه وعزلته عن غزله:
دعيني وشأني فإن الليالي سقتني المرارة
وسعرت الآه في جانحي واذكت أواره
دعيني .. ولا تخدعنك هذي النضاره
فبعد الربيع خريف يحيل الغضاره
(الغضارة) هنا غير مفهومة لعله يقصد (اخضراره) إلى جانب أن تركيبته اللفظية ناقصة .. أرى أن يكون هكذا:
(فبعد الربيع خريف مخيف يزيل اخضراره)
دعته إلى العزلة مبررة:
دعيني أعيش حياة التأمل في وحدتي
أفكر في الله، في الكون، والنار والجنة
وارسم لي عالما ساميا .. تظلله فكرتي
أحب الحياة لغيري، فلا أُطلقَن غيرتي
وابعد روحي عن درَن المال، والساسة
غابة رغدان شدته إليها برباط وثيق اسمه الإعجاب:
كانت رائحة الأرض المبتلة بالماء تقتحم القلب
وتغني في الأعماق أناشيد الوطن
كانت رائحة الأرض الرطبة
تدب إلى الشريان التاجي كحميا الكرم اللدن
بعد وصفه تجيء أمنياته:
أتمنى أنني طفلا غضا أتمرغ في تربة رغدان
أُنبت حبا (صبارا) في حرية ..
ما كل ما يتمنى المرء يدركه يا صديقي ..
أهي استراحة أم راحة أبدية تلك التي يتوق إليها:
تعبت يا رفيقتي من الترحال والسفر
تعبت من موانئ الخطر، ومن مضارب البدوان والحضر
تعبت من نومي الطويل، والسهر
ومن نجوى الزهور، والحسان، والقمر
تعبت من حالي .. ومن حلمي، من البشر
ماذا أبقيت لنا كي نختار؟ الترحال أجهدك، الجغرافيا أنحتك، حتى السبات المريح لم يرحك .. كثيرة مللتها بما فيها الحسان من أجل عينيها لوحدها كثير هذا عليك منك
أريد أن ارتاح فوق صدرك المليء بالمثمر
رغم إجهاده وتعبه وملله من الترحال والسفر إلا أن لبنان .. وجمال لبنان أقوى من مقاومته:
لبنان يا قصيدة رائعة الإيقاع والصور
يا ملهم العشاق، يا لحنا يذوب في ايقاعه الحجر
تعذيك كل نفس شاقها السهر
وكل روح سامها الضجر
وكل من جاب من الدنا اقطارها ومن على سفر
طوَّف في مرابعها الغنية والفقيرة .. بحرها سحرها، مروجها، أنهارها، ليلها نهارها، حسانها وإنسانها .. وجد فيها نفسه
وجدتُ فيكِ نفسي بعد أن أرهقها الترحال والسفر
فهل تضمي إليك كانبلاج الفجر، في غياهب السحر ..
لبنان الأمس يا شاعرنا لم تعد لبنان اليوم .. الذين ماتوا عشقا فيها من أهليها هجروها .. هاجروا عنها خشية دانات صواريخ الموت .. من حرب أهلية إلى نذر حرب إقليمية تغذيها مطامع الكبار الذين يصنعون القرار لوحدهم في عالم اليوم .. غداً ستعود عربية، وأدبية .. ولو كره الطامعون، والمتآمرون ..
أخيراً .. هذه الأبيات من مقطوعته (مراجفة)
قلت يا نفس سامحي
لا تبالي بمن زعم
ودعي الناس للزمان
فهم الناس مِن قدم
ربنا لا تزغ بنا ..
واقبل التوب والندم
بهذه الأبيات الثلاث التي تفيض استذكاراً، واستغفاراً، وأوبة وتوبة ينهي شاعرنا د. حمد الزيد رحلتنا معه من خلال ديوانه (ديواني) تناولنا صحبة الترحال معه، وبه الكثير من الإمتاع، والإشباع الوجداني، والإنساني بكل ما فيه من حلاوة ومرارة .. شكراً له .. وعلى أمل متجدد أرجو أن يستمر.
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«5621» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض: ص. ب 231185
الرمز : 11321 - فاكس : 2053338