أجرح قلبي، أسقي من دمه شعري، تتألَّق جوهرة في قاع النهر الإنساني، تطير فراشات حمر، تولد من شعري، امرأة حاملة قمرًا شيرازيّا في سنبلةٍ من ذهب مضفورًا، يتوهج في عينيها عسل الغابات وحزن النار الأبدية، تنبت أجنحة في الليل لها، فتطير، لتوقظ شمسًا نائمة في حبات العرق المتلألئ فوق جبين العاشق، في حزن الألوان المخبؤة في اللوحات:
امرأة حاملة قمرًا شيرازيًّا، في الليل تطير تحاصر نومي، تجرح قلبي، تسقي من دمه شعري، أتعبد فيها: فأرى مدنًا غارقة في قاع النهر النابع من عينيها، يتوهج سحر عسليٌّ يقتل مَنْ يدنو أو يرنو أو يسبح ضد التيار. أرى كل نساء العالم في واحدة تولد من شعري.
أتملَّكها، أسكن فيها، أعيدها؛ أصرخ في وجه الليل ولكن جناحي يتكسر فوق الألوان المخبوءة في اللوحاتْ مجنونًا بالنهر النابع من عينيها بالعسل الناريِّ المتوهج في نهر النار، أسبح ضد التيار.
أرجو ألا أبالغ إذا قلت أن كلّ امرأة تتمتّع ب(حاسّة الشعر) لن تطمح لأن تكون غير قمر شيراز، تختزل التاريخ والجغرافيا والثقافة، وتعود بالإنسان إلى أصله: الحزن! ولعلّ هذا الشعر الذي خلق قمراً شيرازياً، يعود بنا إلى الشاعر، الشاعر أي هو.
أعادتني هذه الفكرة إلى الشعر، فمنذ أشهر وأنا أطالع في دواوين الشعر العربيّ، قديمة وحديثة، لرجاله ونسائه، حتّى خلصت إلى أنّ: الشعر للرجال!
قد تجرّنا هذه النتيجة إلى الكلام على النسق الثقافيّ وسطوته، فقولنا: الشعر للرجال، هو كلام نسقيّ أملته الوثيقة التاريخيّة التي وصلتنا مدوّنة ومتأخّرة، وفحواها دواوين شعر الرجال، وقبل ذلك معلّقاتهم، فغاب أو غيّب ما قالته النساء، أن قلن - ولا أرنو من كلامي الإلماح إلى أيّة مؤامرة - لذا اعتدنا أن يكون الرجل شاعراً، وأن تكون المرأة جزءاً مهماً من النصّ - القصيدة، وقد تخرج منها أحياناً، لكنّها متلقية افتراضية أيضاً، على الرغم من إشارات كثيرة إلى أنّها لم تكن يوماً فاعلة في إنتاج الثقافة التي أساسها الشعر، ذلك أن شعر من عرفناهنّ مثل هند بنت عتبة، والخنساء، وليلى الأخيليّة، وولاّدة، كان إمّا شعر مقولات نظريّة، أو نشاطاً حداثيّاً لم يكتب له تشكيل حركة بجذور متماسكة، فكان شكلاً مثقّفاً لعمل المشجّعات والندّابات والمغنيات.
وإذا عدنا إلى القول أن الشعر شكّل الشخصيّة العربية حتّى اليوم بإرساء النماذج، سنجد كلّ رجل يحبّ أن يكون نسخة محدّثة محاكية للنموذج الذي قرّره الشعر: أن يكون قويّاً، كريماً، شهماً، غنيّاً، عفّاً وزير نساء في آن معاً، فهو يغضّ الطرف عن جارته، لكنّه خارج الحيّ أشبه بامرئ القيس. أنا أقول: يحبّ أن يكون، لا أقول: هو كذلك، أو يستطيع أن يكون.
وكذلك كلّ امرأة تحبّ أن تكون مدلّلة، ذات حسب ونسب، عفيفة، متمنّعة، حاضرة البديهة، ومثقّفة أيضاً، وطبعاً حسناء، ومقاييس الحسن ما تزال كما قرّرها الشعر العربيّ، على الرغم من اجتياح النموذج الغربيّ الذي انضوى في مراحل كثيرة تحت لواء النموذج العربيّ أيضاً، وها هي الهركولة تعود اليوم بعودة العجّازات! هذا، وما تزال المرأة تحبّ أن تجد نفسها في عيون الشعر.
في استفتاء سريّ أجريته بين طالباتي في السنة الرابعة من قسم اللغة العربيّة: بين أن تكوني شاعرة أو روائيّة، جاءتني الإجابات، أن الجميع أردن أن يكنّ روائيّات، ولا واحدة تريد أن تكون شاعرة!
أعدت ذلك أيضاً إلى الالتفاف بعباءة النسق، وفقدان النموذج، في حين أن نموذج الساردة حاضر بقوّة من خلال شهرزاد، لقد أحببن جميعاً أن يحكين، لا لأنّهنّ يحملن الكثير من الحكايات الخاصّة والسريّة فقط، بل لأنّهن يبحثن عن شهريار يحررنه بأسر الحكاية، فتكون كلّ واحدة مخلّصة لبنات جنسها من حالة حصار ثقافيّ- اجتماعيّ ما. وإذاعدت إلى نفسي، فأنا شخصيّاً لم أطمح يوماً لأكون شاعرة، على الرغم من امتلائي بالشعر، كلّ ما حدث في حياتي كيّفته لأروي، ولعلّني وطالباتي جميعاً كائنات نسقيّة، سواء أوعينا هذا الانضواء أم لم نعيه، لكن يكفي بأنّنا سعيدات بثنائيّة الرجل الشاعر والمرأة الراوية، ويكفيني أنا أن تكون كلّ منهنّ نجمة شيرازيّة، وشهرزاد صغيرة.
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244