د. لمياء باعشن
تقول هذه القصة أشياء ثقيلة دون أن تقولها، ولنفس هذا السبب تمضي قصة (الدوامة) لسباعي عثمان دون ضجة، رغم أنها تطرح بتوسع موضوع شائك مثل اللواط الذي ألمحت إليه من بعيد قصة (شيء خارج الذاكرة)لعبده خال فهاجت الزوابع.
هل قلت زوابع؟ نعم! والكثير منها بدءا بالرقابة الرسمية وانتهاء بالاستنكار الاجتماعي. لكن هذه الزوابع يتم احتواءها والتستر عليها فتفلت من التوثيق الذي قد يوضح أن القصة القصيرة قد نالها ما نالها من (صراع الأنساق). تثير القصة القصيرة (رد فعل مضاد) لو لامست الواقع بوضوح، لكنها تمر مرور الكرام لو أجادت التخفي وأثارت النقاش دون أن تناقش، وهذا التغلغل الإيحائي واستثارة التكهنات وترك أبواب النصوص ونوافذه مشرعة لعمليات تأويل لا نهائية هي أهم تقنيات القصة القصيرة الحديثة، وهي تقنيات تمكن الكاتب من التحرك ببراعة في الحيز الضيق المتاح له. لكن النصوص من هذا النوع تتطلب قارئاَ متمرساً يجيد تكنولوجيا القراءة التي تستلزم استعداداً معرفياً وقدرة تحليلية تؤهله لاستقبال النص والمشاركة في إنتاج دلالاته. وتبقى هذه النصوص مغلقة وذات حصانة ضد ردود الفعل المضادة لأنها تمنع ولوج القارئ السلبي الذي اعتاد استهلاك الفكرة الجاهزة.
لكن الكاتب يدرك أن إعاقة التواصل مع متلقيه تكمن أيضاً في انفتاح هذا العصر على مصادر متنوعة للتنوير، فالقراءة ما عادت الرافد الأوحد والأقوى لتشكيل الوعي والذائقة في هذا المجتمع الاتصالي، والقصة لها منافسون أشداء في جذب المتلقي وتكوين طاقاته الفكرية. تظهر القصة القصيرة هذا التعدد لمصادر النور التي من أهمها: بريق المدن الصناعية التي يصفها إبراهيم الناصر في قصة (الأشقياء) بأنها) تلك المنطقة المتوهجة الضوء في جميع الليالي)، والتلفزيون الذي يصف سعد الدوسري في(الدخول، انطفاءات الولد العاصي) دخوله إلى عالم القرية واستقبال الأطفال له:(فاحت الدهشة من رؤوسنا ونطقنا بصوت واحد: تلفزيون؟ انتظمنا في صف واحد أمام صندوق موضوع وسط الغرفة..عجيباً كان شكلنا ونحن مصطفون، ورؤسنا مثل زهرات عباد الشمس المستديرة باتجاه النور((98). وهنالك الانفتاح على الآخر الذي يحضر في شكل(رجل غريب) في قصة (الجنادب) لمحمد علوان: (رجل غريب يحدثهم عن عالم لا يعرفونه.. ولأول مرة منذ جاء هذا الغريب والناس في القرية التي عرفت بهدوئها تأخذ في التغيير فهم لا يملون الحديث عن هذا الرجل.. عندما
يفتح فمه للحديث.. تقف علامات الاستفهام لتصبح آلافاً من علامات التعجب والاندهاش.
كل شيء في هذا الوجود يستقيم بالمعرفة.. بالقدرة على التأثير.. الجنادب تتقافز.. الأرجل
تدفع الأجسام إلى حيث النور.. العيون تصاب بالغشاوة .. لا ترى شيئاً.. الأشعة القادمة
من النار تغريها بالاقتحام لتتساقط محترقة.. الكل منبهر.. تنغلق العيون.. وهج النار
- مع ذلك - يظهر وراء الأجفان المغلقة).
أمام كل هذه الأضواء التي تشكل الانبهار بالمنجز الحضاري الخارجي لا يملك الكاتب إلا أن يتوارى فينحسر ضوئه وينعزل في غربته، وهذا ما عبر عنه حسين علي حسين في (الحواجز) حيث دخل البطل مطعماً أجنبياً فهالته الأضواء اللامعة التي (تكاد تكون مبهرة، واريت بصري، فكرت فيمن يقول بأن الأضواء في الأماكن الضخمة، لا بد أن تكون موارية.... في داخلي رثيت لضوء الشمعة المختلج التائه وسط الأضواء المشتعلة من كافة الأركان والسقوف). ومن هذا المنطلق يشعر الكاتب أنه يدور في فلك حياة خاوية ودوائر فراغ لا نهائي يعبر عنها فهد العتيق في قصة (الدائرة)
حيث يصارع البطل هاجس الحزن: (ياللحزن.. كل الخيوط تنفصل في منتصف المسافة! يدرك انعزاله عن هذا العالم.. وغموض الأشياء حوله.. وأنه يخوضها وحيداً.. رجل صاغته الهموم حزناً .. الدائرة هي فقط دائرة، أكملها مثل باقي البشر.. قبل ذلك أنت مدعو لإحداث شيء فيها.. قبل أن تكتمل الدائرة لا بد أن تخضر.. ماذا حصدت؟ لم أزرع شيئاً.... كانت الدائرة قد أحكمت((مسافات المطر الآتي 1985). يتعالق اغتراب الفنان كمبدع مع حالة الحزن والإحباط وخيبة الأحلام المجهضة، فهو يرتد إلى داخل نفسه حيث يعاني من غيبة التوازن بين ازدحام الفضاء الخارجي الخانق وبين انعزال الفضاء الداخلي الخواء، ثم يتساءل عن جدوى ما يفعله في غياب تواصله مع الآلة المجتمعية: (لا يزال اليوم يغرق في حزن كئيب.. وغد غائم يسبح في ضباب من المجهول الذي لا يكاد يستأنس بشيء من كل ما حوله.. ترتد الأحلام الخائبة لتنكفئ يائسة بدون أن تحقق شيئاً)(سباعي عثمان، دوائر في دفتر الزمن، 1979).
تتقوقع الأحلام الخائبة داخل الذات المبدعة وتبحر في فضاء داخلي يحكمه زمن خاص به يختلف عن الأزمنة الإنسانية: (الأزمنة لا تهم عندما نغرق في أبعاد الحدث.. كم هو بارد.. الماضي.. والحاضر.. وحتى الغد، أزمنة تذوب في عمق اللحظة، وكأنه لا شمس تشرق أو تغيب! بقى يحدق في الفراغ: نحن براغ صدئة في عجلة الحياة العملاقة التي تدور، ربما بدون أن تحس بوجودنا...
(سباعي عثمان، الجرح والسكين). في هذا الفضاء السيكولوجي يلجأ الكاتب إلى التقنيات الاستبطانية لكي يوحد الأزمنة، فيأتي تيار الوعي بتداعياته المتشعبة والمتشابكة كمسار نفسي للتدليل عما يعتمل بداخله من مشاعر مبهمة تحيكها مكبوتات اللاشعور. يرصد الكاتب انعكاسات العالم المفكك المتهرئ على جدران الداخل متوسلاً بأدوات الرمز والتجريد تارة وبمظاهر العبث والسوداوية تارة أخرى، فيظهر الواقع وكأنه كابوس ينطلق من مستويات ذهنية عميقة على شكل هلوسة وهذيان. يخلط عبد الله باخشوين بين الغرائبي والفانتازي والسوريالي في مجموعته الحفلة التي تصور حالة خوف من عدوان خارجي مبهم، تكشف العقل الباطن بهواجسه وجنونه، فبطل(الحفلة) يلبي دعوة إلى حفلة ليس بها مدعوين سواه فيجد نفسه في غرفة باردة جدرانها بلا أبواب وسقفها يقترب منه ويبعد بينما تدور الكراسي وأطباق الطعام الفارغة وتقع على الأرض دون أن تحدث صوتاً. أما بطل قصة (الأصدقاء) فهو رجل يتلبسه شك في كل من حوله فهو يقرأ في عيونهم مؤامرة ضده فيفقد شعوره بالأمان عندما تصل شكوكه إلى رجل الشرطة. ويستخدم عبده خال هذا السرد الغرائبي الذي تشيع فيه الفوضى والغموض في قصته(الجدار)، فالبطل يلاحقه صوت أنين متصاعد لا يعرف مصدره حتى يكتشف أنه صادر من الجدار. ويتوغل الكاتب في تعميق الفكرة وتأكيد طرافتها وميلها الفسلفي عن طريق رفع المستوى التقني وشحن رموزه بدلالات كثيفة تحول المشهد إلى رؤية عبثية متداخلة في عالم تجريدي لامعقول.
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244