عبدالرحمن بن محمد السدحان
أدب السير الذاتية أمر تباينت حوله الآراء وتبارت المواقف بين المهتمين بالمشهد الأدبي، ممارسة وتنظيراً، ويمكن ايجاز نماذج من ذلك الجدل في السرد التالي:
1- المؤيدون لهذا الطيف من أدب السير يرون أنه وسيلة بوح مشروعة يطل منها كاتب السيرة على مخزون النفس الانسانية من وقائع ومواقف وأحداث تتجاوز أجزاء منها حدود خصوصية الكاتب الى آفاق من الزمان والمكان والبشر المعاصرين له، وان حصاد ذلك البوح قد يضيف الى ثقافة القارئ في وقت لاحق اضاءات مفيدة لا توجد دائما في المصنفات الأدبية والتاريخية والانثربولوجية المتاحة، ومن ثم، تقوم السيرة الذاتية بجزء من دور المؤرخ والموثق والكاشف لأطياف من السلوكيات تصف مجتمعا ما في زمن أو مكان ما: حياة وأنماط فكر وأساليب عيش، مما قد يغيب عن إدراك أو جهد أو اهتمام المؤخرين التاريخيين لحراك المجتمع البشري بصورته الشمولية، خاصة أن جمهورا من أولئك المؤخرين يعنون في الغالب بالحراك السياسي أكثر من سواه.
**
من هنا يرى المؤيدون لهذا النسق الأدبي أن السيرة الذاتية قد تفلح فيما يخفق فيه المؤرخون كونها تجسر الفجوة بين السرد التاريخي المهتم غالبا بالطيف السياسي، وبين مكونات الحراك الإنساني للمجتمع في أدق جزئياته وخصوصياته، عبر لوحات من التجارب الذاتية التي يرسمها الكاتب حروفا ومشاعر وانطباعات!
**
2- وهناك على الصعيد الآخر من لا يأخذ بالرأي السابق، اعتمادا على عدد من المؤشرات من بينها:
أ- ان السيرة الذاتية هي في أحسن أحوالها (تدوين) شخصي لأحداث ومواقف وانطباعات تتعلق بصاحبها، ولا تتعداه الى الشرائح البشرية الأخرى التي يتشكل بها ومنها مجتمع الكاتب، رؤية وتجربة وأنماط حياة.
**
ب- إن السيرة الذاتية، مهما ارتدت من حلل الأدب نصا وتعبيرا وإبداعا، تبقى ترجمة خاصة لحياة كاتبها في زمن ومكان وظرف ما، لكن لا يعتدى بها من الناحيتين المنهجية والتاريخية في التعرف على أنساق الحياة الاجتماعية أو الإرث التاريخي في مجتمع السيرة، لأنها تتكئ في الغالب الى الانتقائية في السرد بما يحقق (أجندا) الكاتب ورؤيته وغايته وما يطمع أن يشرك فيه المتلقي فهماً عبر (رسائل) معينة يتوق إلى ترسيخها في ذهن ذلك القارئ.
**
3- وهناك رؤية ثالثة موغلة في اللا مبالاة بأدب السيرة الذاتية يعتمد خطابها على تهميش هذا الطيف الأدبي وصفه ب(الهرطقة) أو اللا معنى، وأنه ضرب من ترف القول الذي قد يشجي إيقاعه لحظة أو لحظات، لكنه لا يضيف إلى ذهن القارئ شيئاً.
**
وتعليقا على المواقف الثلاثة السالفة الذكر، أقول إنني أتخذ موقف الوسط بينها، واصفا أدب السير بأنه نسق أدبي يوظفه الكاتب للغوص في مجاهل ذاته تعرفا على بعض كوامنها من ذكريات ومواقف وأحداث، يمكن أن يستفيد منها المتلقي لها تذكرة وعبرة، وكلما بعدت المسافة الزمنية بين التجربة الحياتية للمتلقي وتجربة كاتب السيرة، كانت الفائدة المرجوة أثرى وأجدى، اعتماداً على القيمة الفنية والأدبية للنص.
**
واستطرادا لما سبق، يجوز القول بقدر من الثقة إن كاتب السيرة ليس مؤرخاً بالمفهوم السائد الذي يرصد ويدون أحداثا ومواقف متفرقة عاشها مجتمع ما بمؤسساته وأطره البنيوية المتفرقة، بل لا يفترض أن يكون هذا الكاتب مؤرخا بهذا المفهوم، ومن ثم يتعذر منحه وزن المؤرخ دقة وشمولا، لكن لا يجوز في ذات الوقت إقصاء عطائه أو تهميشه أو التقليل من شأنه، لأكثر من سبب:
أ- فهو يرصد حراك ذات إنسانية معينة في زمن أو مكان ما، وصفا وتحليلا واستنباطا تتجاوز مدلولاته تلك الذات إلى غيرها من الشرائح البشرية الأخرى، شريطة أن يتوافر لدى صاحب السيرة ما يستحق البوح به والتدوين.
**
ب- إن الذات الإنسانية موضوع الرصد ليست (جزيرة) مقطوعة الأصول، فاقدة الجذور، مجهولة النسب بل هي جزء لا يتجزأ من حراك ذلك المجتمع حياة ومشاعر ومواقف وأحداثا، ومدون السيرة لا بد أن يكشف لقرائه مكونات البيئة التي عاش فيها، وسعى في مناكبها سلوكية واجتماعية وثقافية ونفسية، ولو لم تكن كذلك ما كان للسيرة جدوى ولا معنى، ولا رجح سبب لتدوينها ونشرها بين الآنام.
**
من كان مثلا سيعرف بعض العادات الاجتماعية في أجزاء من منطقة عسير، من غير أهلها، المندثر منهم والباقي، قبل أن أتحدث عنها في كتاب (سيرتي الذاتية)، ولم يكن لي من مفر عن ذكرها، لأن جزءاً كبيرا من طفولتي تشكل سلوكا ووجدانا في تلك الأرض الطيبة على ضوء تلك الحيثيات مجتمعة، وبدونها لم يكن لي إلى كتابة سيرتي من سبيل!
**
ج- تبقى بعد ذلك مسألة هامة في هذا السياق، وهي ما إذا كان محتوى هذه السيرة أو تلك أهلا للتدوين أم لا، وإذا دونت ونشرت فهل يؤهلها ذلك لاهتمام القارئ بها وإقباله عليها أم ينصرف عنها انصرافا وتلك مسألة فيها نظر تحكمها في تقديري المتواضع ثلاثة عوامل رئيسة:
- أولها: الذائقة الأدبية لدى القارئ، وما إذا كان يميل إلى هذا النسق من الكتابة أم لا.
- وثانيها: قدرة الكاتب على طرح مادة السيرة بأسلوب يشد القارئ ولا ينفره.
- وثالثها: مادة السيرة نفسها وما إذا كانت تتضمن ما يستنفر عقل القارئ وروحه وخياله، أو يضيف إليه شيئا لم يدركه من قبل.
**
وبوجه عام، ستظل كتابة السيرة الذاتية معلما من معالم الأدب الإبداعي، قديمه وحديثه، شاء من شاء، وأبى من أبى، وسيظل الجدل بشأنها قائما الآن وغدا، وعزاؤنا نحن كتاب السير الذاتية، إن صحّ لي شرف الانتماء إليهم، أن تعميم الحكم لها أو عليها ينطوي على ظلم كبير لفن الكتابة وصاحبها، وللقارئ أيضاً، هناك سير خذلت أصحابها مثل (أيام) طه حسين التي دخل عبرها قاعة الخلود الأدبي.
**
وهناك كتاب آخر عبرت شهرته الآفاق، محليا وعربيا وعالميا بعنوان (حياة في الإدارة) لمعالي الدكتور الأديب غازي القصيبي، جمع فيه بين دوري المؤرخ لجزء مهم من تاريخ هذه البلاد في رحلة عبورها التنموي نحو القرن العشرين، ومزجها بذكاء بشرائح من سيرته مع زملاء له كرام شاركوه عناء تلك المرحلة المفصلية من تاريخ بلادنا، تفكيراً وعناء وإنجازا، وغير هذا وذاك الكثير من كتب السير الملهمة تاريخيا وإنسانيا مثل سيرة عميد الثقافة وأستاذ الجيل، الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - بعنوان (من سوائح الذكريات) في مجلديها الكبيرين، وحديثا أمتع معالي الوالد الأديب الدكتور عبدالعزيز الخويطر قراءه بعشرة مجلدات تروي ذكرياته وحملت العنوان (وسم على أديم الزمن) وغير أولئك وهؤلاء كثيرون.
**
أستأذنكم في الاستشهاد لبعض المضامين السابقة بقراءة مقطع قصير من الجزء الثاني من سيرتي الذاتية الذي لم يزل رهن الطبع، وفيه أحدد هوية الرسالة التي قصدت بها مخاطبة جيلنا المعاصر في ضوء تجربتي الطويلة عبر مسارات الزمن، وما تعلمته من عبر وما علمني إياه الزمن المثخن بالأحداث من دروس أسهمت على نحو أو آخر في تشكيل شخصيتي، قديمها وحديثها وعلى متنها عبرت فيافي الضيم والحرمان والعوز، وكان الله ناصرا لي ومعيناً.
**
أقول في ذلك الجزء (مع شيء من التصرف) ما يلي:
(... حاولت عبر كتابي (قطرات من سحائب الذكرى) بجزئيه أن أرسم وبقدر كبير من التواضع لوحات (بانورامية) موجزة لمراحل متفرقة تنتثر عبر بعض شطآن حياتي، تخللتها زخات متعددة المصادر من معاناة التكوين العقلي والوجداني أكسبتني عبر محطات السنين أطيافا من شفافية النفس تجذرت في الأعماق، وتكونت بسببها نزعة (الحساسية) تجاه حراك الكون والكائنات من حولي، ولولا إيماني بالله بدءا ثم شيء من الثقة في النفس مقرونة بحركة دائبة من النشاط داخل المدرسة وخارجها، مكنني من إذابة جليد الرتابة في حياتي - لولا ذلك كله - لتحولت تلك (الحساسية) إلى شيء من (البارانويا) أو الشعور بالخوف من أمرٍ ما، وهما كان أو توقعاً!
**
نعم.. كنت أخاف من الخوف نفسه، وهو أشد ما يروع الإنسان السوي، فكيف بغير السوي! كنت أخشى مفاجآت يضمرها الغد قد لا يكون في بعضها نفع لي، وأظن ظنا يدنو من اليقين أن تراكمات الألم والحزن والحرمان في حياتي عبر السنين الأولى من عمري قد أوقدت في نفسي لظى ذلك الخوف! وكنت أخشى معه من الفشل إلى حد أنه كاد يرغمني أحيانا على التردد في اقتحام غمار أي تجربة جديدة!
**
وبوجه عام، فقد علمتني تجارب السنين - وما استصحب من الأحداث الموجعة - علمتني العديد من العبر من أهمها: أنه لا شيء أقسى على المرء سوى الخوف من الخوف نفسه! كما قال الرئيس الأمريكي الراحل فرانكلين روزفلت في خطابه الشهير عقب كارثة (البير هاربر) التي أدخلت بلاده أتون الحرب العالمية الثانية. وفطرة الإنسان السوي تملي له بادئ الأمر قدرا من التردد في فعل أي شيء جديد، إما بسبب الجهل بفرص النجاح فيه أو بسبب قصور التأهيل للتعامل معه وصولا إلى النجاح المنشود، فإن طغى على المرء الخوف ترجيحاً للفشل أو خوفا من نتائجه، فإن صاحبه سيقعد حتما مع القاعدين، وسيبقى أسير خوفه أو تشاؤمه أو الاثنين معاً.. أما إن حزم أمره وتوكل على الله وأعد لنفسه عدتها لمواجهة ما يريد فعله، بروح من التفاؤل الحذر، أو الحذر المتفائل، فإنه لا بد بإذن الله أن يبلغ ما يريد، إن لم يكن في التجربة الأولى ففي الثانية أو حتى الثالثة. وكل تجربة حتى وإن انتهت بادئ الأمر بفشل، سيلتقط منها فاعلها معلومة أو عبرة أو درساً يعينه على تجاوز الفشل في التجربة التالية أو التي تليها!
**
أنتهي هنا إلى القول إنني استفدت كثيراً من مواجهاتي العديدة مع الخوف من الغد ومن احتمال الفشل في إدراك ما تتمناه النفس، وقررت منذ فترة مبكرة في حياتي أن أواجه الخوف ب(اللا خوف) منه، وأن أقهر الفشل بالتفاؤل الحذر والعمل الجاد تطلعا نحو الفوز بالمراد، ثم أمضي أمارس عملية (احتراق) داخلي.. فأشغل نفسي بالعمل، معتمدا على الله أولا، ثم مستفيدا من مخرجات (التجربة والخطأ) في سلوكي وصولا إلى النجاح.
**
ثم أمضي في الحديث مخاطبا جيلنا الشاب المعاصر، فأقول: (... إنني أخشى أن يتصور البعض من أبناء جيلنا الشاب المعاصر أنني بمثل هذا الحديث أشبه بائعاً يروج لبضاعة انتهت صلاحيتها بالنسبة لمعظم شباب يومنا هذا، وقد زين لي الخيال أن أبتدع حواراً دار بيني وبين أحد أفراد هذا الجيل متحدثا باسمهم حيث قال:... إنك أيها الشاب العتيق تتحدث عن زمان ومكان لم يبق من ذكرهما في الأذهان سوى الأطلال، إن بقيت لهما إطلال!
لا تحاكمنا يا سيدي بما كان يفعله آباؤك وأجدادك والآخرون من أسلافك، فلكل جيل قيمه وتطلعاته وآماله.
أنت في أمسك البعيد مثلا لم تكن تحلم أن تملك دراجة هوائية في حين أن واحدا منا أو أكثر من أبناء جيل اليوم يحلم بما هو أهم وأعقد وأرقى من الدراجة الهوائية التي كنت تحلم بها، حتى إن أحدنا ليكاد يتمنى أن يملك عربة فضائية تطير به في الهواء بعيدا عن مرارة الزحام المروري في شوارع مدينة متخمة بالسكان والعربات كمدينة الرياض، أو يحلم بسيارة سحرية تطوي به الأرض طيا أو تمخر به عباب الماء، وعلى هذا قس مظاهر الحياة الأخرى!
ثم يمضي ممثل هذا الجيل قائلاً: (... إنك في زمانك يا سيدي الشاب العجوز لم تكن تحلم أن تتجاوز حدود بلادك إلى خارجها سياحة أو علاجا أو دراسة، فانظر في المقابل ما آل إليه بعض من أبناء هذا الجيل.. ها هو يعبر البحار والقفار والأجواء خارج الحدود وهو في عقده الثاني أو فوق ذلك بقليل في نزهة تحمله مع أهله أو رفاقه خارج بلاده كل صيف، وهو لا يفتأ يصر على تحقيق هذا المشوار المكلف ملتمسا (رفاهية الكيف) في بعض مدن العالم، غربية وشرقية، ترى.. ماذا تتوقعه أن يقول لأقرانه في المدرسة والجامعة حين تعود الطيور المهاجرة إلى أوكارها وتستأنف الدراسة؟!
بِمَ يجيب إذا سأله زميل له: كيف أمضى إجازة الصيف؟ قد يتردد كثيرا بل قد يحرج أكثر لو قال إنه أنفق إجازته في أبها أو الباحة أو في (جدة غير) أو في مغارات ومتاهات و(راليات) شارع التحلية في الرياض!
آباء وأجداد هذا الجيل. إنني أعترف سلفا أنني لا أقوى على الجدل ردا على ما أسمعني إياه ابن هذا الجيل، فالبون بيني وبينه شاسع لا يعوزه دليل وعقد المقارنة بين ما كان وما هو كائن وما يمكن أن يكون من أمري وأمره ليس في صالح أي منا!
**
كل ما أملك قوله له ولكم ثم لنفسي هو أنني لم ولن أجرؤ على مطالبة هذا الجيل بأن يعيد عقارب ساعة زمانه إلى الوراء، لكن هذا لا يحول دون محاولة استخلاص العبرة مما كان، ليس اتباعا لخطوات من سبقنا حذو القذة بالقذة في كل شيء، ولكن تلمسا للعبرة، وشحذاً للهمة واستلهاما للشجاعة في مواجهة المجهول.. مثلما فعل جيل السلف!
**
باختصار ما أريد قوله في الختام هو أنه إذا كان الزمان والمكان لم ينصفاني في بداية مشوار العمر، فعانيتُ من غلبتهما ما عانيت فقرا ومرضا وتشردا، فإن نعمة الله ورحمته التي وسعت كل شيء قد قيضت لي الفوز في المحطات التالية من عمري، ومنحتني الغلبة على عسر الأمس وزهده.
**
ومشوار مؤلم كهذا لا يعني أنه الصراط الوحيد للفوز بسعادة الدنيا والأمل في نعيم الآخرة (بإذن الله)، فسبل النجاح والفشل متعددة متلونة الأسباب والأطياف والنتائج.. وكل كتب الله له من حياته لحياته شيئاً.
**
- منّا من يشقى في حياته بلا نصيب ولا جدوى
- ومنّا من يبدل الله له من بعد عسره يسراً..
- ومنّا من يهبه الله مقاليد السعادة واليسر فوق طبق من فضة أو ذهب، كل وفق ما كتب له.
- لكن الأجمل من ذلك كله أن يلي العسر يسر، وأن يتبع الظمأ ارتواء وأن يهزم الجوع الشبع، وأن تطمئن النفس بعد طول شقاء، فالضد بضده يعرف!
*****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5141»ثم أرسلها إلى الكود 82244