د. طارق بن محمد بن حزام
قد نظلم الأب حين نحاول الحديث عنه بالكلمات، فهو أكبر من أن تحيط به المصطلحات، وأعمق، من أن تصفه الجمل، الأبُ ليس مجرد شخص، وجد، لينفق ويشقى ويتعب.
بل هو حكاية، بطولة يومية تُروى بصمت، ودفء، ذلك الجندي المجهول، أمان يتسلل إلى حياتنا دون أن نشعر، نقف أمام مقام الأب عاجزين، نحاول صياغة الكلمات ثم نمسحها مرة بعد مرة، وكأن اللغة ذاتها تخجل من أن تقصر في التعبير عنه.
ماذا أكتب عن الأب؟ هل أقول: إنه عمود المنزل؟ أم أنه الأمان المعلق فوق رؤوسنا؟ أم الطمأنينة التي تعانقنا حتى في أحلك حياتنا؟
الأبُ هو الشخص الوحيد في العالم الذي يتمنى من أعماق قلبه أن تكون أفضل منه، جسده يأكله التعب وتنهشه الأيام، فقط ليمنحنا حياة كريمة، ليضعنا على أعتاب مستقبل أفضل.
الأبُ لا يطلب شيئًا لنفسه، بل تكمن سعادته في رؤيتنا نكبر أمام عينيه، حين نحقق نجاحًا صغيرًا، تلمع في عينيه فرحة تتجاوز كل تعبير، وبينما نخطو خطواتنا الأولى نحو الحياة، يكون هو هناك، يسندنا إن تعثرنا، ويباركنا بدعواته.
الأبُ هو ذاك الضوء الخفي الذي لا ندرك قيمته إلا بعد أن يخبو. هو الجدار الذي يحميك من عواصف الحياة، واليد التي تمتد لتسعدك في أصعب الأوقات.
لا أنسى أبدًا والدي، ذاك الرجل كنت أراه شامخًا كالنخلة في أرضنا ثابتًا صبورًا عنيدًا، يقاوم المرض بشراسة وكبرياء، حتى فكرة الذهاب إلى الطبيب كان يعدّ دلالًا» لا يليق به، وروحه أنقى من أن توصف، رحل كما عاش في هدوء تام، أبي كان أنموذجًا للرجل البسيط، الطيب القلب، المسالم، عاش حياته هادئًا، ورحل في هدوء، لكنه ترك أثرًا لا يمحى، بالرغْم أنه لم يتلق القسط الوافر من التعليم فقد أفنى حياته ليعلمنا، ليمنحنا فرصًا لم يحظ بها.
إن كنت ممن لا يزال والده حيا يُرزَق، فاقضِ معه أكبر وقت ممكن، استمتع بوجوده، وأنعم بدعواته كل لحظة معه كنز، وكل كلمة يقولها حكمة لا تُقدّر بثمن، وإن كنت مثلي، ممن رحل آباؤهم، فلا تنسَهم بالدعاء والصدقة، قد نظن أن الزمن كفيل بتعويض غياب الأب، لكن الحقيقة أن مكانه يظل فارغًا يتردد صدى صوته في قلوبنا إلى الأبد.
الأبُ هو أعمق أشكال الحب وأكثرها نقاءً، فاستمتعوا بظلهم، وكونوا لأرواحهم أوفياء حتى بعد الرحيل.
فهم أحوج ما يكونون إلى البر بعد موتهم.
والدي، يا منبع الآمال
إليك أبث شوقي وحنيني
يا أعظم قلب في الوجود، لمثلك يكتب الشعر والقصيد، إلى أبي ذلك النبع الصافي، إلي شجرتي التي لا تذبل، إلى الظل الذي آوي إليه في كل حين أبي، ربما لم أبرك تمام البر، لكني أعلم أنّ قلبك أكبر من أي بر، رعاك المولى وجزاك من الثواب الجزاء الأوفى.