للوهلة الأولى، تبدو العبارات التالية «حرب عوالم» «وهجوم الإمبراطوريات الجديدة المضاد» «وصراع العمالقة»... كأنها عناوين لسناريوهات يعالج من خلالها السيناريست ضبابية الحروب المشتعلة في أي مكان من هذا العالَم وتأثير ذلك على المجتمع الدولي.
يقدم برونو تيرتري، نائب مدير مؤسسة البحوث الاستراتيجية (FRS) المتخصصة في قضايا الأمن الدولي، في كتابه «حرب عوالم» رؤية للتطورات الجيوسياسية الحالية ويقترح سبلا للتفكير العقلاني لمنع تصعيد وتيرة الصراعات، الا أنه في نفس الوقت يؤكد على أن الخطوط العريضة للجغرافيا السياسية المعاصرة تم رسمها قبل الغزو الروسي لأكرانيا في 24 فبراير 2022 على الرغم من التحولات التاريخية الكبرى التي وقعت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي وفيها جرى الحديث عن التطبيع الصيني الأمريكي وثورة المحافظين في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وزيارة يوحنا بولس الثاني إلى بولندا والصحوة الدينية في العالم الإسلامي وغزو فيتنام الذي شهد عودة مصطلح الجغرافيا السياسية في وسائل الإعلام الفرنسية.
من بين هذه التحولات التاريخية الكبرى في مطلع التسعينيات من القرن الماضي جرى الحديث عن عمليات القمع الوحشي للمتظاهرين في ميدان تيانانمين في وسط بكين وسقوط الاتحاد السوفييتي وإحياء القومية الصربية والحروب في يوغوسلافيا وغزو الكويت. أما في بداية العقد الأول من هذه الألفية، فقد جرى الحديث في وسائل الإعلام العالمية عن تحولات تاريخية كبيرة تمثّلت في حرب كوسوفو ووصول فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم في روسيا وبداية حرب الشيشان الثانية وأحداث 11 سبتمبر 2001 وغزو كل من أفغانستان والعراق.
يشير المؤلف في كتابه «حرب عوالم» الى أن هناك تحولات جوهرية أخرى حدثت منذ مطلع العام 2020 وأدت الى وقوع كثير من الأحداث الكبرى من بينها الحرب الأوكرانية وتحول روسيا إلى دولة شبه فاشية وبداية الانحدار الديموجرافي للصين وما صاحبه من تعزيز لسلطة شي جين بينج الرئيس السابع والحالي لجمهورية الصين الشعبية خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، وصعود القرن الآسيوي على المستوى الاقتصادي: الصين والهند واليابان بالإضافة الى النمور الآسيوية الأخرى ككوريا الجنوبية وسنغافورة وتايلاند وماليزيا وهونغ كونج، حيث أصبح إنتاج هذه الدول يفوق إنتاج بقية دول العالم.
في كتابه «حرب عوالم» يبدي المؤلف اندهاشه من الأحداث التي ميّزت العام 2020 وما بعده: انتشار وباء كوفيد 19 والتنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين والحرب المشتعلة بين الروس والأوكرانيين ومستقبل الصراع بين أذربيجان وأرمينيا والنزاعات التي لا تنتهي في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط والتوترات بين الهند وباكستان وبين الصين والهند وكذلك الصراع في شبه الجزيرة الكورية، يضاف الى ذلك الحروب التجارية والمنافسات التكنولوجية والصراعات من أجل النفوذ وقضايا الطاقة. ووفقًا لمعهد أبحاث السلام بأوسلو (Prio) فإن عدد الحروب في العالم وصل إلى مستوى أعلى مما كان عليه قبل عشر سنوات لكنه مستقر نسبيا، وقد أحصى هذا المعهد ما مجموعه 55 حربا مسلحة في 2022، ومع ذلك يؤكد المتخصص في قضايا الأمن الدولي برونو تيرتري أننا مقبلون على حقبة جديدة تتسم بعودة الصراعات المسلحة بين الديمقراطيات الغربية والإمبراطوريات الجديدة الصينية والروسية والإيرانية والتركية، كما أن احتدام المنافسات بين القوى العظمى سيقود الى ما يسمى «بالحرب الفاترة» التي سيقف فيها الغرب وجها لوجه ضد الامبراطوريات الجديدة الصين وروسيا وإيران وتركيا ولكن من دون إراقة دماء. وفيما يبدو العالَم كأنه على وشك الغرق في بحور من الفوضى، تحاول الإمبراطوريات الجديدة كروسيا والصين وتركيا وإيران تحدي هيمنة الدول الغربية على النظام الدولي. فما إن خرجت هذه الإمبراطوريات الجديدة من سباتها الطويل، حتى شرعت في استعادت مكانتها على المستوى العالمي.
في هذا الكتاب، 8 الخبير في الجغرافيا السياسية، برونو تيرتري، النقاب عن الديناميكيات المعقدة التي تشكّل عصرنا كما أنه يسلّط الضوء على الصراعات الناشئة التي يمكن أن تحدد مصير كوكبنا. صحيح أن الصراعات لم تتوقف أبدا منذ القدم، لكن العديد من هذه الصراعات في الوقت الحالي تورّطت فيه قوى عظمى: حيث تلوح في الأفق صراعات محتملة في بعض أجزاء من القارة الآسيوية خاصة في بحر الصين مع تكثيف بكين ضغوطها على تايوان.
يبحركتاب «حرب عوالم» بالقارئ في رحلة حول العالم في القرن الحادي والعشرين، حيث تخوض بعض الدول معارك لا ترحم من أجل بسط سلطتها وتوسيع نفوذها. انطلاقا من التنافس بين القوى العظمى إلى التوترات المتزايدة في المناطق الاستراتيجية، يتناول برونو تيرتري بالتحليل التحولات الجيوسياسية التي تعمل على إعادة تشكيل العالم المعاصر. فالحروب التجارية والمنافسات التكنولوجية والصراعات على بسط النفوذ والمنازعات الدائرة حول قضايا الطاقة تكشف لكل متابع المخاطر الكامنة في النظام العالمي الحالي.
يتناول كتاب «حرب عوالم» بالتحليل مصطلح الجنوب العالمي الذي يشير، كما كان في الثمانينيات من القرن الماضي، إلى البلدان التي تتميز بانخفاض مؤشر التنمية البشرية وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تقع هذه البلدان بشكل رئيسي في الجزء الجنوبي من العالم. على الرغم من التطورات الهامة على الساحة الاقتصادية العالمية، فإن مصطلح الجنوب العالمي لا يزال يُستخدم في بعض الأحيان للإشارة إلى ما نسميه الآن البلدان الأقل نموا. في المقابل، كانت البلدان التي تتميز بارتفاع مؤشر التنمية البشرية ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي تسمى ببلدان الشمال التي يُطلق اليوم البلدان المتقدمة. يمكن لقارئ كتاب «حرب عوالم» أن يستشف ضبابية مصطلح «الشمال» ومصطلح «الجنوب» حيث لم يعد لكليهما أي دلالة لوصف المجموعات السياسية الرئيسية، فبينما تقع الصين والهند في نصف الكرة الشمالي، توجد أستراليا ونيوزيلندا في نصف الكرة الجنوبي. كما أن العالم لم يعد كما كان في السبعينيات من القرن الماضي حيث انتهت حقبة الاستعمار واكتسبت العديد من البلدان الناشئة قوة اقتصادية ودبلوماسية قوية.
ختاما: يرى برونو تيرتري أن الصراعات الدموية في مناطق مختلفة من العالم تلقي بظلالها القاتمة على أرض الواقع وقد تتسع لتطرق أبواب دول كثيرة تظن أنها في مأمن من الانخراط طوعا أوكرها في حروب مستقبلية لا قِبل لها بها. ولأن العصر الجيوسياسي الجديد يوصف بأنه ذلك العصر الذي يشهد نشأة إمبراطوريات جديدة لديها نزعة للتسلط والهيمنة وقادرة على وضع حد للهيمنة الغربية على النظام العالمي، فإن كاتبنا يتساءل: أين نحن من العقد الأول من القرن العشرين عشية الصدام الكبير بين الإمبراطوريات وأين نحن من فترة الثلاثينيات من القرن الماضي وذروة صعود الشمولية العدوانية وأين نحن من الخمسينيات من القرن الماضي وبداية شكل جديد من أشكال الحرب الباردة؟ وهل يوجد ما يسمى بالصراع العالمي؟ وهل تتمكن الدول الغربية من مقاومة الصدمات الاستراتيجية؟ وما الذي تبقى من هيمنة الدول الغربية على العالم؟ وإذا وقعت حرب عوالم فمن سينتصر؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تحتاج الى قارئ أغواه فعل القراءة للبحث عن إجابة شافية وسط تحديات جيوسياسية وصراعات عدمية لا تخطئها عين.
** **
- د.أيمن منير