أ.د.صالح معيض الغامدي
بشكل عام، تُسرد أحداث سيرة الوقت وفق تدرج زمني (كرونولوجي) كما ذكرنا، من الطفولة إلى زمن توقف الكتابة. غير أن هذا التدرج الزمني ليس صارما كما قد نتوهم، فالسارد كثيرا ما يستبق الزمن السردي للأحداث أو يعود به إلى الوراء على شكل تداع رجعي، ولكن الاستباق أو العودة هنا ليسا للأحداث بقدر ما هما للتعقيب عليها، ولذلك فهما يوظفان بطريقة سريعة على شكل شرح أو تعقيب أو استنتاج. فمثلا يقول السارد مسترجعا عند رؤيته لشاطئ العراة في باريس «لم أصدم لأن رؤية الجسد العاري كانت أمرا مألوفا لدينا نحن الأطفال في بيوت القرية وساحاتها...».
أما أمثلة الاستباق فهي كثيرة جدا، ويمكن أن يعزى ذلك إلى غزارة الذاكرة وتدفق الأحداث في ذهن الكاتب أثناء الكتابة، وإلى رغبة الكاتب ربما في تشويق القارئ وشده إلى متابعة قراءة السيرة دون توقف. ويلاحظ هنا أن الكاتب يضع العبارات الاستباقية غالبا بين معقوفتين (.... )، ولعلنا نورد الأمثلة التالية التي تصور ظاهرة الاستباق الزمني في هذه السيرة:
- «...(قرأت لاحقا كلاما ليحيى حقي عن العضو غير المنتسب، ولعلي كنت كذلك)...»،.
- ...»(بعد سنوات سأقرأ قصة اللؤلؤة لشتاينبك وأحمد الله أن مغامراتي مرت بسلام)»... .
- «...(لاحقا علمت أن التاجر والكاتب والإصلاحي محمد علي مغربي كان يبيعها [مضخات الماء] بسعر التكلفة تقريبا لدعم الفلاحين، فقررت أن تكون أولى محاضراتي بنادي الطائف الأدبي عن هذا المثقف الوطني النبيل، ردا للجميل)...» .
أما المكان في هذه السيرة فغالبا ما يأتي محبوكا أو مضفرا بالزمن، فوصف الأماكن يأتي بدهيا في سياقها الزمني كما كانت عليه، إذ هي في أغلبها أماكن مستعادة مسترجعة تخضع لحكم الزمن الذي يوصف المكان فيه. وفي بعض الأحيان يعلق السارد على الحالة التي يكون المكان القديم قد آل إليها حديثا بشيء من الحنين أو النستالوجيا. والحقيقة أن الزهراني كثيرا ما يربط هويته بالمكان ربطا قويا وبخاصة في الأماكن الأولى التي ولد وترعرع فيها، فهو يقول: «فكلنا أفراد بهوية واحده وهوايات متشابهة، فلاحون نحب الأرض ونرى السماء ساحة للنجوم أو معبرا للغيوم ومصدرا للمطر... فشجرة الحياة القروية أكبر من كل الأشجار العائلية الصغيرة». فالمكان المشترك هو الذي يجمعه بأهل القرية ويؤلف بينهم، وهو محور حياتهم، يقول الزهراني: «فالجميع شركاء في المكان، وليس هناك أقوى من الانتماء للمكان ذاته أرضا وسماء، سهلا وجبلا، وكم كان الواحد منا يزهو بذاته وهو يسمع من يصفه بأنه ذئب أو سبع أو صقر... وإذن فلا أبالغ حين أقول إننا وهي (الكائنات) أبناء الطبيعة».
فسيرة الوقت تبدأ بسرد أحداث الحياة في القرية وتمر بالرياض ثم فرنسا وتعود إليها، بحسب التدرج الزمني الذي اتبعه الكاتب في سيرته. وعلى الرغم من حضور أماكن الطفولة المطبق في هذه السيرة إلا أن الكاتب يولي الأماكن الأخرى التي عاش فيها قدرا جيدا من الاهتمام بغض النظر عن مدى ألفته بها من عدمها.
الثيمات الرئيسة:
لا يمكن لكاتب السيرة الذاتية أن يكتب كل سني حياته بكل أبعادها وتجاربها دفعة واحدة فقد يحتاج إلى عشرات المجلدات لاستيعابها، ولذك يلجأ كتاب السيرة الذاتية إلى الانتخاب والاختيار، ويتم ذلك بطرق متعددة لعل من أهمها وضع ثيمات رئيسة لمسيرة حياته يركز عليها، وقد فعل ذلك الزهراني، إذ نراه يركز في سرد سيرته الذاتية على الثيمات التالية: الطفولة، والاغتراب والتحول، والإنجازات. وفيما يلي عرض موجز لهذه الثيمات الرئيسة:
1 - الطفولة
ظهرت الطفولة في سيرة الوقت ثيمة رئيسة ومركزية، فالطفولة هي البئر الأولى في السيرة الذاتية، كما وصفها جبرا إبراهيم جبرا، التي يمتح السارد منها، وكثيرا ما يعود إليها حتى في المراحل المتأخرة من حياته. فهي تمثل له قيما إنسانية ما يفتأ يتغنى بها، مثل الحرية والانطلاق ...إلخ، يقول الزهراني:
«فأنا مسرور دائما تماما اليوم بولعي الشديد بكل ما يذكر الشخص بطفولته ولا أتردد في اللعب مع الأطفال وتجريب متع الحياة المواتية دون كبير اعتبار لأي تقاليد اجتماعية أو معايير أخلاقية لا أقتنع بها» .
ورغم سرد كثير من تجارب الطفولة من منظور السارد وقت الكتابة، إلا أن القارئ قد يلحظ أن بعض هذه التجارب جاء من منظور الزهراني وكأنه يعيش هذه التجارب الطفولية مرة أخرى، وذلك لعفويتها وبراءتها.
2 - الاغتراب:
تمثل الغربة في سيرة الوقت بكل مشتقاتها (الغريب، والاغتراب واغتراب، وتغريبة ...إلخ) ثيمة رئيسة أخرى، فكل شيء في هذه السيرة غريب عجيب، على الأقل من منظور السارد، ابتداء من اسم جده محيي الدين الغريب مرورا باسمه (معجب)، إلى غربته الأولى خارج قريته (الغرباء) أيضا، وكذلك (غربته) الثانية في مدينة الرياض، وأخيرا (تغريبته) الأولى إلى فرنسا التي يسميها « التغريبة الكبرى»، وكذلك تغريبته الثانية، والثالثة التي لم يكتب عن تفاصيلها بعد.
وكثيرة هي المواطن التي يتحدث فيها الكاتب عن الغربة والاغتراب وموقفه المتقلب منهما في سيرته،، فهو يقول على سبيل المثال: « فهاهي الغربة تعود كما كانت في الأصل، هواية للبعض وقدرا للآخرين، وهوى أصيلا لأمثالنا» . ويقول أيضا واصفا وعيه المختلف الذي بدأ يتشكل في الرياض: « كان مختلطا بمرارة الإغراب الذي ينمو ويتعزز فيحرم الذات من هدوئها وانسجامها مع من حولها». وكثيرا ما يصف الكاتب بعض المشاهد الغريبة التي شدت انتباهه في باريس، ومنها وصف مشهد لمظاهرة فلاحية، يقول: «ولفرط غرابة المشهد في مجمله لم نستوعب [هو وزميله أحمد أبو دهمان] أن الأمر يتعلق بمظاهرة فلاحية عارمة إلا بعد تساؤلات حائرة ونقاشات مطولة بين شابين «مثقفين» بدأت التجربة العملية تكشف محدودية وعيهما بعالم مليء بالمظاهر الغريبة الجذابة والإعلامات الغامضة».
التحول:
يشكل التحول بكل معانيه ثييمة رئيسة أخرى في سيرة الوقت،
والتحول هنا هو التحول الجسدي والاجتماعي والعاطفي والفكري بشتى أنواعه، وهو تحول ذاتي يخص السارد طوال حياته المسرودة وتحول مجتمعي يصور التغيرات التي مرت بها مجتمعات بلادنا في هذه الفترة المسرودة، وكانت في مجملها تحولات وتغيرات صعبة لكنها كانت من منظور هذه السيرة ضرورية. وقد شكلت معالم التحولات الاجتماعية والفكرية عوائق صعبة في وجه عمليات التنمية الذاتية للأفراد كما سردها كاتب السيرة، وبالرغم من ذلك فقد استطاع الكاتب بطريقة أو بأخرى تجاوزها أو تجاوز كثير منها. وكثيرا ما رأى السارد أن يشارك في عملية التغيير المجتمعي وأن يسهم فيه قدر استطاعته. ومع ذلك فقد كان وقع التحول في هذه المرحلة قويا على الكاتب إلى درجة أنه كان « على مشارف التشكيك في كل المعتقدات التقليدية ظنا أن الزمن قد تجاوزها، وأنها تشكل عائقا حقيقيا أمام أي تطور جدي في وعي الفرد والمجتمع» . ومع ذلك فقد استطاع الكاتب أن يتعاطي مع تلك الشكوك بجدية ويتحاوزها ويسهم إسهاما فاعلا في عمليات التغيير الذاتي والاجتماعي على حد سواء.