عبد الله الغذّامي من أهمّ النقاد والمنظرين العرب المعاصرين، فمنذ صدور كتابه النقدي الأوّل (الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية – جدة 1995)، إلى اللحظة الآنية لم يتوقف عن إثارة الجدل في الأوساط الأدبية والثقافية والأكاديمية في الوطن العربي، وذلك بسبب الجرأة والرؤيا النقدية المتقدمتان اللتان أثراهما سواء عن طريق محاضراته كأستاذ (النقد والنظرية) في كلية الآداب/ قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود بالرياض أوعن طريق مؤلفاته التي بدأت بالخطيئة والتكفير إلى إشكالات النقد الثقافي: أسئلة في النظرية والتطبيق صدر عن المركز الثقافي العربي 2023 . مرورا بسلسلة مهمة من المؤلفات منها على سبيل المثال لا الحصر:
تشريح النص، مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة. دار الطليعة، بيروت 1987-
- الموقف من الحداثة. دار البلاد، جدة 1987.
-ثقافة الأسئلة، مقالات في النقد والنظرية، النادي الأدبي الثقافي. جدة 1992
-المشاكلة والاختلاف، قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في الشبيه المختلف. المركز الثقافي العربي، بيروت / الدار البيضاء 1994
-النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت .2000.
- نقد ثقافي أم نقد أدبي. (بالاشتراك مع عبد النبي اصطيف) دار الفكر، دمشق (حوارات لقرن جديد) 2004.
ـ-ما بعد الصحوة: تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد. صدر عن المركز الثقافي العربي 2015
مآلات الفلسفة: من الفلسفة إلى النظرية. صدر عام 2021-
وأخيرا وليس آخرا
- إشكالات النقد الثقافي: أسئلة في النظرية والتطبيق. صدر عن المركز الثقافي العربي 2023.
إذ يعد الدكتور عبد الله الغذامي ثرّ العطاء متجدد النظرة ينظر إلى الحداثة والنقد الأدبي من عدّة زوايا، يضع أمام عينيه التجديد في جميع أطروحاته سواء النقدية أو الأدبية أو الفلسفية، إذ قادته صراحته وجرأته إلى الصدام مع عدّة أسماء كبيرة في ساحة ألأدب العربي أمثال:(سعد البازعي في السعودية) أو على الصعيد العربي (أدونيس).
إذ يتحلى كتابه (النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية) الذي نشر في المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت 2000، أهم كتبه النقدية والتنظيرية وأكثرها شهرة و جدلا في الأوساط الأدبية العربية على الإطلاق لما به من رؤيا تنظيرية جديدة تبشر بمشروع نقدي عربي جديد، وذلك لامتلاكه ثقافة واسعة وخبرة كبيرة خاصة في مجال النقد والأدب ولاسيما يعد من المجددين في الثقافة العربية.
إذ يقوم مشروعه على رؤيا معاصرة تتلخص بـ رؤيا وقراءة مغايرتين للخطاب الشعري العربي القديم والحديث في محاولة للكشف عن مضمراته أنساقه الثقافية، مسلما بعجز النقد الأدبي بمفهومه الجمالي عن كشف العناصر النسقية المضمرة، ومن يتأمل في مشروعه أو رؤياه النقدية يدرك أنها ليست مجرد تأويلات أو تخريجات معزولة عن سياقاتها بل إنّه الخوض في مفهوم النقد الثقافي وجذوره وأصوله المعرفية وما يقابله من مرتكزات ورؤى في النقد الغربي.
يتمثل هذا الكتاب أقصد -كتاب النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية -، في طرح مجموعة من المقاربات في قراءة النص قراءة ثقافية، ومن يستعرض هذه القراءة يجد أن الغذامي بدا وكأنّه في بحث عن العيوب النسقية في البناء الجمالي للنص .
ولا ننسى ما أولاه الناقد من دور للمرأة خاصة بعد صدور كتابه (المرأة واللغة) عام 1996، حيث تحولت المرأة من خلاله إلى قضية دافع عنها حتى بدت وكأنها مركز يدور حوله الخطاب النقدي في مجمله بعد التحولات التي حدثت وبروز مقولات ما بعد البنيوية من جانب، ومنجزات ما بعد الحداثة من جهة ثانية وظهور دعوات التغيير التي أطلقها كل من (رولان بارت و ميشال فوكو وجاك دريدا) وصولا إلى عام 1968 حيث الثورة الطلابية الكبرى، التي قادت إلى تغييرات جذرية متعددة منها صعود التيارات التي تقوّض كل السلطات بما في ذلك سلطة الناقد الأكاديمي، وهنا نعى (رونان ماك دونالد) الناقد أو دوره في كتابه الموسوم (موت الناقد)، فبرزت الحاجة إلى وجود رؤيا جديدة تحاول انتشال العملية النقدية وتأطيرها بأطر تجديدية واقعية ، فقد طرح لنا الناقد المتجدد في رؤياه المثير للجدل أين ما حلّ، نتيجة لأفكاره الجريئة وكتبه المثيرة للجدل ابتداء من كتابه الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية عام 1985 ، إذ طرح د. عبد الله الغذامي حزمة من الآراء والمقاربات في قراءة النصوص الأدبية قراءة ثقافية في محاولة لفرز العيوب في الأنساق التي تهدد البناء الجمالي للنصوص، فجاء بمفهومه الجديد بـ ( النقد الثقافي) قراءة في الأنساق الثقافية العربية.
إذ ترتكز فلسفة أورؤيا النقد الثقافي بانتزاع اللغة والبلاغة من النصوص والنظر إليهما كمنظومة من العلاقات التي تتجاوز حدود مفهوميّ اللغة والبلاغة وكأنّ الدكتور يأخذ على عاتقه قراءة عيوب الخطاب الشعري العربي قديمه وحديثه، وهذا واضح من خلال مقولته الشهيرة (لقد آن الأوان لكي نبحث عن العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة، التي يحملها ديوان العرب، وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة، لقد أدى النقد الأدبي دورا هاما في الوقوف على جماليات النصوص ، وفي تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي ، ولكن النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أو سببه، أوقع نفسه في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي).(1)
دعوة الناقد هنا إلى البحث عن عيوب الخطاب الشعري العربي جاءت بعد عجز النقد الأدبي بمفهوم المهني من تشخيص هذه العيوب، والسبب هو أن البلاغي والجمالي غطّيا على عيوب النسقية للخطاب الشعري العربي، ولأن الزاوية التي ينظر منها النقد الأدبي تماما غير الزاوية التي ينظر منها النقد الثقافي ولذلك قال الناقد:
( لنأخذ أمثلة من أبي تمام والمتنبي و أدونيس و نزار قباني، وهي أمثلة على الجمالي الشعري وهي أيضا أمثلة عن الخلل النسقي، وما يثري لنا جماليا و حداثيا في مفهوم الدرس الأدبي هو رجعي ونسقي في مقياس النقد الثقافي) (2). بمعادلة بسيطة أن النقد الأدبي ينظر إلى بلاغة النص وجماليته بينما النقد الثقافية ينظر إلى نسقية خطابه أن كان متجددا أو مكررا ويتمّ تقييم النصوص حسب هذه الرؤيا في فلسفة النقد الثقافي.
وفي ظل هذه الرؤيا هل يمكننا من الاستعاضة عن النقد الأدبي بالنقد الثقافي؟ وكي نجيب على هذا السؤال يجب أن نعرف أولا ما مرتكزات الرؤيا الجديدة فكريا و معرفيا التي تراوحت بين ( الأوربي / الأمريكي ) و( العربي قديمه وحديثه).
لنقف عند كتاب ( النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية).
بعد المقدمة المهمة التي وضعها الباحث في التمهيد لمفهومه النظري، وللأسباب التي دعته إلى انتقاد المنجز الأدبي وفق رؤياه البلاغية (الجمالية)، كونها تخفي الكثير من العيوب ولا سبيل إلى الكشف عنها إلا من خلال قراءة السطور وما بين السطور، وذلك من خلال كشف الأنساق وتعرية الخطابات المؤسساتية ولا يتمّ هذا حسب الباحث إلا بوجود ( نظرية جديدة) وهذه النظرية سمّاها بـ ( النقد الثقافي).
حيث يبدأ في الفصل الثاني بعرض للنظرية والمنهج بالتمهيد مستشهدا بـ (هايدجر) عن تفسيره كلمة (حدّ) الإغريقية معللا هذا بأنّها لا تعني نهاية شيء بل بداية شيء آخر.
إذ إن هنالك حداثة وما بعد الحداثة وهنالك بنيوية وما بعد البنيوية وما يريد قوله الناقد: أنّ هنالك جماليا وما بعد الجمالي وهنالك بلاغي وما بعد البلاغي حتى يتسنى له الدخول في مفهومه (النقد الثقافي)، الذي ينظر إلى الأنساق الخطابية وليس إلى الجمالية في تقييم الأعمال الأدبية والفنية.
فالنظرة القديمة أوالتقليدية إلى الأدب قد انتهت بموت المؤلف عند (بارت) و موت الناقد عند (دونالد) وموت النقد الأدبي عند (الدكتور الغذّامي )،فلا بد من الاستعانة بالنقد الثقافي كآلية جديدة في عملية تقييم الأعمال الفنية والنصوص الأدبية من خلال متابعة أنساق الخطاب وكشف الإدراك اللاشعورية ورؤية المضمر الأيديولوجي وعلاقته بالذات المقنعة (حسب تعبير أنتونو أيسثوب).
رغم أن الدراسات الثقافية قد بدأت مبكرا منذ عام 1964 على يد جماعة برمنجهام غير أنها بمرور الوقت تطورت إلى مفهوم النقد الثقافي خصوصا بعد سلسلة من تحولات ما بعد البنيوية كلها تنصب إلى نقد الخطاب، وفي محاولته للدخول إلى مفهومه النظري يمهّد الناقد إلى ذلك بأن فلسفة جماعة برمنجهام عندما حددت مصادرها الثلاثة سلّمت بوضوح أنّ أحد مصادرها (أدبية نقدية).(3)
و قبل أن ندخل في مفهوم -أدبية النقد الثقافي- حسب مفهوم الناقد عبد الله الغذامي علينا أن نعرف السبب الذي يقف وراء دعوته هذه حيث يقول : (لقد أدى النقد الأدبي دورا مهما في الوقوف على جماليات النصوص، وفي تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي، ولكن النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أوبسببه أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي). (4).
حسب تشخيص الناقد إذ إن هنالك عيوبا نسقية غطى عليها النقد الأدبي، لذلك كان لابدّ من وسيلة ما للكشف عنها ومحاولة إصلاح هذه العيوب، لكن ما هو السبب الذي يقف وراء دعوة الناقد لإصلاح هذه العيوب يقول: ( و ظلت العيوب النسقية تتنامى متوسلة بالجمالي، الشعري و البلاغي، حتى صارت نموذجا سلوكيا يتحكم فينا ذهنيا وعمليا). (5)
وعلى وفق رؤية الناقد فإنّ العيوب النسقية الموجودة في النصوص شعرية وبلاغية، هي السبب لدعوته الإصلاحية هذه مستشهدا بأشعار( أبو تمام و المتنبي وأدونيس و نزار قباني) (6). فإذا كان النقد الأدبي يظهر لنا جمالية النصوص وبلاغتها فإنّ النقد الثقافي يكشف لنا عيوبها النسقية والرجعية مستشهدا بدعوى أدونيس في الحداثة. فيقول:( كل دعاوى أدونيس في الحداثة سيتضح لنا أنّها خطاب لفظي لا يؤدي إلا إلى مزيد من النسقية والرجعية) (7).
و هكذا يعلن الناقد رسميا موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي مكانه في محاضرته الشهيرة في 22/9/ 1997.. لكن ما هو الهدف أو الغاية التي يرمي إليها الناقد، وهل دعوته هذه هدفها تقويض النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي محله؟
إنّ الناقد له تبرير آخر حيث يقول: ( ليس القصد هو إلغاء المنجز النقدي الأدبي وإنما الهدف هو في تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي الخالص وتبريره وتسويقه بغض النظر عن عيوبه النسقية إلى أداة في نقد الخطاب وكشف أنساقه، وهذا يقتضي أجراء تحويل في المنظومة المصطلحية) (8).
وعلى وفق ما طرحه الناقد فنحن أمام رؤيا نقدية عربية جديدة، وعندما أقول -رؤيا نقدية عربية جديدة -هذا لا يعني سبقا عالميا لكن يعني سبقا عربيا، فلم تشهد الساحة الأدبية العربية دعوة إلى إحلال النقد الثقافي محل النقد الأدبي إلا من خلال الناقد عبد الله الغذامي، وهذا يحسب له.ولاسيما في كتابه هذا أقصد -النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية -أعطى شرحا مفصلا حول الجانب التنظيري أو ما أسماه رسميا ب-( نظريتنا) (9) ، و يقصد نظرية النقد الثقافي وهو أول من نادَى بها وأسقطها على النصوص التي اختارها بعناية ودقة وليس بعفوية أو صدفة عربيا.
إذ يقسم الكتاب إلى سبعة فصول قسمّت إلى:
- الفصل الأول: استعرض فيه الناقد الجهود النظرية التي تشكل الخلفية العلمية لنظريته.
- أما الفصل الثاني فتضمن: أجراء تحويل في المنظومة المصطلحية.
- ثم أفرد خمسة فصول على التطبيق العملي أوما سمّاه بـ (الإجرائي).
و قبل أن ننهي العرض التنظيري للكتاب لا بد لنا من مدخل إلى الجانب التطبيقي، ولا يمكن أن يتم هذا إلا عبر بوابتين:
أولا- المشروع الذي وضعه (فنسيت ليتش) وسمّاه بـ النقد الثقافي، الذي جعله رديفا لما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ووضعه في ثلاث خصائص له:
أ- عدم تأطر النقد الثقافي تحت إطار التصنيف المؤسساتي للنص الجمالي.
ب - الاستفادة من تحليل النصوص وخلفيتها التاريخية.
ج - تركيزه على أنظمة الخطاب وأنظمة الإفصاح النصوصي. (10)
ثانياً - التأريخانية الجديدة: فقد طور مصطلح التاريخانية الجديدة عام 1982، أو الجماليات الثقافية، التي (تخلت عن عدد من المفهومات النقدية المركزية من مثل المحاكاة والوهم والتخييل وفعل الترميز هذه المفهومات التي تعتمد تصورا يجعل العلاقة بين الأدب والتاريخ علاقة خليفية وأمامية) (11). وحسب الناقد أن هذه النظرة( تعيد تقييم العلاقة فيما بين النصوص من جهة وما بين الأنظمة الدلالية من جهة أخرى) (12).
وهنا نأتي إلى نهاية عرض الجانب التنظيري والتقديم لهذا الكتاب المهم جدا جدا الذي رفد المكتبة الأدبية والنقدية والإبداعية العربية بمفاهيم في غاية الأهمية حول الرؤيا النقدية الجديدة وتشخيصه للعيوب النسقية التي تلبس بها النقد الأدبي العربي، التي ظلت ملازمة للشعر العربي القديم إلى عصر الحداثة وما بعد الحداثة العربية، التي جرّد بها أهم أعمدة هذه الحداثة إبداعا وتنظيرا وهو(أدونيس)، حيث كشف عن عيوب نسقية في خطابه الشعري والتنظيري والحداثوي وما جرّ هذا الخطاب الأدونيسي إبداعا وتنظيرا المحّمل والملبس بالعيوب النسقية من عدوى على خطابات الحداثة والتجديد في الثقافة والأدب العربي، وكان لابد من محاولة لإيقاف هذه العدوى من الانتقال من جيل إلى آخر، فكان هذا الكتاب بمثابة الأداة أوالخلطة السحرية أوالوصفة الطبية التي يمكن استخدامها أوالرجوع إليها في وقف انتشار هذه العدوى إلى مفاصل الأدب العربي.
الفهرست
(1): النقد الثقافي، مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت .7،2000
(2) المصدر نفسه:8.
(3) المصدر نفسه:20
(4) المصدر نفسه:8.
(5) المصدر نفسه:9
(6) المصدر نفسه:9
(7) المصدر نفسه:9
(8) المصدر نفسه:9
(9) المصدر نفسه:10
(10) المصدر نفسه:32.
(11) المصدر نفسه:45
(12) المصدر نفسه:45
ورقة «الغذامي وتحديات النقد المعاصر «رؤية مبتكرة» ألقيت في محاضرة للدكتورة رائدة مهدي العامري وذلك مساء يوم الثلاثاء 12 / 12 / 2023م في كرسي غازي القصيبي بجامعة اليمامة.
** **
د.رائدة العامري - العراق