عام الشعر العربي
عام القهوة السعودية، عام الخط العربي، عام الشعر العربي ... مبادرات مدهشة، وتفكير حي متجدد، يوقظ خبايا الحياة العامرة بالجمال، ويحافظ على مكتسبات محلية وعربية، ويعزِّز هوية الإنسان السعودي.
إلا أن تسمية هذا العام بعام الشعر العربي، تسمية مختلفة متفردة، تعني لي الشيء الكثير، لأني شغوفة بالشعر قراءة ودراسة وبحثاً، إذ يحتفي هذا الاسم الأنيق بالجمال والإبداع والكلمة.
أذكر وقتها أني كنت أتصفح الأخبار، حين امتدت يدي إلى جيب هذا العالم المجنون، تتحسس ضجيجه وصراعاته وحروبه، حتى وقعت عيناي على هذا الخبر، فإذا بشيء من الطمأنينة تسري في روحي، وتتحسس جمال هذا الكون.
قفزت إلى ذهني فوراً علاقة الفن بالإنسان، فتذكرتُ أن إحدى مهمات الفنون الجميلة هي: «إغناء تجربة الإنسان»،أدركتُ كم نحن بحاجة المضطر إلى عين أخرى نبصر بها هذا الكون، وإلى يد ترسم خارطته من جديد، يتشكل فيه البهاء والزهو، ولن يكون هذا لغير الشعر، الشعر الذي ينهض بالهم الإنساني .
هل الإحساس بالجمال فكرة عابرة؟! الحقيقة إنه غريزة بالغة الأثر في أرواح البشر.
كما يقول إدجار آلان بو: إن «الغريزة الخالدة العميقة في روح الإنسان هي بوضوح الحس بالجمال. هذا هو ما يمد بهجته بأشكال متنوعة وأصوات وروائح وعواطف في الوسط الذي يوجد فيه».
ولكل هذا كان المجد للشعر الذي يحتفي بالإنسان، ويتحدث له وعنه، إذ يزرع في روحه هذا الأثر، ويغرس تلك المعاني الخالدة، فلم يعد الشاعر ذلك البطل أو ذاك العبقري المتفرد، لم يعد هناك قبول وانسجام مع هذه الفكرة، في عصرنا المتأجج بالانهيارات الإنسانية.
لم يعد الناس يصفقون للشعراء الذين يؤسطرون أنفسهم كالمتنبي في فخره بنفسه، بل ينحازون لمثل قول محمود درويش: أنا مثلكم أو أقل قليلا.
ولم يعد الناس ينجذبون لشخصيات بطولية يحتفي بها الشعر مثل:عنترة أو سيف البهلوان، بل صار الإنسان يجد نفسه مع: شخصية الإنسان العادي الذي يماثله في ضعفه البشري وبساطة حياته.
ومن زاوية أخرى، فإن هذه الاسم المرهف ينحاز للروح وللمعنى، أمام سيطرة المادة، وقد كنت ولازلت أنفر من الاقتصار في التقدم على التقدم العلمي فقط، وأرى أن هناك منابع للتقدم تنبع من الروح، وقد قال هذا قبلي الناقد مارك دورن حين قال:» أنا من الذين يقولون إن الشعر قد أحرز تقدماً،ولا أتفق والقائلين بأن التقدم مقصور على التقنية «.
إنني أزداد يقيناً بأن الشعر أحد سبل المقاومة بالكلمة،،حيث يدير ذاكرتنا نحو الشعر والحرف المجنح والخيال، نحو السماء والأنهار والينابيع والغيم والمطر، الشعر تلك المزنة التي تمطر في أرواحنا فتزهو وتربو، وهذا سر متعتنا بالشعر، وتلذذنا بقراءته .
نحن اليوم نحتفي بالشعر، « لأننا نحتفي بالإبداع، ونحتفي بالإبداع، لأننا نحتفي بالحياة «، كما يقول د. جابر عصفور - رحمه الله.
ولو تأملنا في نظرية ( التطهير ) التي تحدث عنها أرسطو، لوجدنا أن هذه القيمة المعنوية للشعر عرفت منذ أقدم القرون، فالتطهير: أن تتحرر الروح وتتسامى وتتخلص من شوائبها بتأثير الشعر.
بل إن العلم قد تطور، فأصبح الشعر رسمياً علاجاً مشروعاً للنفس، ففي عام 1969م كتب الكاتب الأمريكي جاك ليدي ( مدير مركز العلاج بالشعر ) في نيو يورك،عن نظرية (العلاج بالشعر)، في كتاب اشترك معه فيه: مجموعة من المتخصصين في علم النفس والفلسفة والنقد الأدبي،مستفيدين من نظرية (التطهير).
ويتجاوز الشعر علاج المتلقين إلى التأثير المباشر في الشاعر نفسه، ولا ننسى تصريح قيس بن الملوح:
ولا أنشد الأشعار إلا تداويا..
كل تلك الرؤى الرقيقة والمعاني المرهفة انثالت ونحن نحتفي بالشعر في هذا العام، لتؤكد حاجتنا لمثل هذه المبادرات التي تفكر خارج الروتين والعادة، لتمنحنا لحظات من الصمت الخلّاق أمام الكلمة الجميلة،ولحظات من الهدوء أمام ضجيج العالم.
هذه التسمية أيضاً تأتي، لتؤكد الانسلال إلى الداخل، وترسيخ الهوية، وتميل الأنظار نحو جوانب غائبة عن النظر، تستدعي التأمل وتحرض على الإنتاج. وتذكر بأن الحضارة لا تبنى على العلوم فقط، وإنما تشارك الآداب في نصيب وافر من البناء والتقدم، حيث تلتقي المادة مع المعنى .
ومن وجهة أخرى أرى موقنة، أن المملكة العربية السعودية هي الأولى والأحق والأجدر بأن تنفرد هذا العام بهذا الاسم المتفرد، لأنها موطن الشعر والإبداع، فقد درج الشعراء العظام في التراث العربي على أراضيها وخصوصاً نجد والحجاز: امرؤ القيس، طرفة بن العبد،عمر بن أبي ربيعة... وغيرهم
بلادنا غنية جداً، تاريخاً وأدباً وآثاراً وثقافة، وبمثل هذه الفعالية، نعزز هذه المكتسبات، ونؤكد القيمة الحضارية لهذا الوطن العزيز .
وطالما كان لدينا مثل هذه المبادرات التي تنطلق من رؤية استشرافية عميقة، فنحن ننتظر إرهاصات تبشر بالمزيد من الكشف عن المخبوء الأجمل في ثقافتنا السعودية .
** **
أ.د. دوش بنت فلاح الدوسري - أستاذ الأدب والنقد - جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن