لم يكن بوسعي فعل شيء لها حتى تبتسم، فالموقف لا يحتمل انفراج الشفتين ولو بربع ابتسامة، كنت أتلهف لرؤية ابتسامتها التي لم أرَ مثلها في الوجود، كانت منكسرة متجهمة ككسوف كلّي للقمر، كنت أحاول في تلك الدقائق القاتمة أن أرسم على فمها ابتسامة أن أسقيها رحيق النسيان بنكهة الصبر أن أكون مهرجا ممثلا.. حتى تبتسم، لكني فشلت، تشجعت ولملمت أنفاسي وكلماتي وقلت لها:
* الورد إذا لم يشرب الحياة والأمل سوف يَذبُل ويموت، علينا أن نحزن ولكن ليس على الدوام فالحزن ينخر أجسادنا المتعبة..
* أصْمُت
* صمتي كلام
* ألم تصمت سأنصرف وأترك لك المكان، أعلم أنها تحبني حتى النخاع، قلت لها:
* أنا معك جسدا وقلبا في كل مكان، أنا كظلك كملابسك كأنفاسك كأحزانك.. قاطعتني بتأفف خرجت من صدرها كرياح صيف لاهبة، أحسستُ بارتياح لتأففها، تلك الصخرة بدأت تنزاح رويدا رويدا، قلت لها:
* خطيبك ليس حبيبك.. نهضتْ مثقلة وانصرفت كنسيم ليل شتائي، غير أن ذلك الليل الذي أظلّنا وفرَدَ جناحيه لم يكن في سمائه قمر، لكني رأيت بياض وجهها، وجه آخر للقمر، كصفحة بيضاء، مثل وردة كالدّهان، وحزنت لما تعاني من فقد عريسها المنتظر، مرت شهور على وفاته، لم تكن تحبه لكنها كانت تودّهُ وتحترمه بحكم القرابة، حدّثت نفسي:
* أحيانا القدر يجمع بين العشاق بعد شتات وقد ظنّا ألاّ تلاقيا، ولولا أن كان قريبها لما وافقت عليه، ها هي تعود لي مبثوثة المشاعر بجروح التشاؤم والحزن، لكن عليّ أن أخرجها من حزنها أن أعيدها سيرتها الأولى أن أشرع في ترميمها مجدداً، مثل ما كنّا صغاراً نجري ونلعب في الحقول مثل عصفورين صغيرين، هي تعتقد أنها سبب وفاته وليس القدر المكتوب.. استطعتُ بعد محاولات وجهد ووعد بالزواج أن أحررها من عقدة الإحساس بالذنْب، في ذلك اليوم «عندما أرسلته أن يجلب لها هدية لحضور زواج صديقتها من أسواق إحدى المحافظات البعيدة ووقع عليه حادث سير ومات» وبعد شهور وعام من وعدي لها بالزواج لم أجد وظيفة وطال الانتظار وداهمنا الملل، ومر عامان كان الحب قد فتر وذبل.. تزوجت من نصيبها وأنا تزوجت من نصيبي، قلت في نفسي: ليس علينا أن نتزوج من نحب وأن نقضي باقي العمر معه، لكن علينا أن نتزوج من لا نحب ونقضي العمر معه، ونسمي ذلك شريك حياة..!
** **
- عيسى مشعوف الألمعي