د. محمد عبدالله الخازم
بدأ الابتعاث السعودي في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، لم يكن هناك جامعات سعودية ولم تكن المدارس الثانوية النظامية منتشرة، لذا أسست مدرسة تحضير البعثات عام 1936م وسبقها إرسال أول دفعة للدراسة في الخارج وكان عددهم 14 طالباً. في البدء كان الابتعاث محدوداً إلى مصر ثم توسع بعد ذلك إلى مختلف الدول، وبلغ أوجه في بداية الألفية الراهنة عبر برنامج خادم الحرمين للابتعاث. كما هو واضح كانت فلسفة الابتعاث تأهيل كوادر وطنية للعودة للعمل في مؤسسات الدولة بمختلف أنواعها، كما أنه أخذ شكلاً واحداً في الغالب يتمثل في الابتعاث للحصول على الدرجات والشهادات العلمية المختلفة.
كان الأمر طبيعياً في ظل نقص المتعلمين والجامعات والتخصصات، لكن بعد مرور تسعة عقود من أولى البعثات وبعد التطور الهائل في التعليم السعودي بكافة أنواعه وتخصصاته، كان يجب أن يحدث تطور في فلسفة ونوعية البعثات السعودية بما يتوافق ومرحلة التطور التي نمر بها وبالاستفادة من الخبرات العالمية وبما يجعل الابتعاث جزءاً من حراك التطوير العلمي للجامعات السعودية وللمجتمع وبما يتواءم مع التطورات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية.
للأسف، التطور جله كان في زيادة الأعداد والإجراءات والتنظيمات الإدارية والإجرائية لكن الفلسفة التقليدية استمرت كما هي، لم تتطور. بل إنه وبسبب الاجتهادات المبالغ فيها نشأت برامج تبدو موجهة لفئات محددة وتفتقد فكرة الشمولية على المستوى الوطني في اختيار أفضل الطلاب للابتعاث. على سبيل المثال، اشتراط الحصول على قبول مباشر للابتعاث لخريج الثانوية يعني حصره في فئة قادرة على السفر أو التعلم في مدارس أجنبية، وقد نحرم الأكفأ من الحصول على البعثة بسبب هذا الشرط، حيث اللغة ليست معيار تميز أكاديمياً. كما أن الحصول على قبول في أفضل الجامعات لا يعني اختيار أفضل المتميزين. لم نستفد من تجربة «وظيفتك بعثتك» وهو المسار الذي أوقف بسبب فشله.
لذلك نقترح إيجاد فلسفة جديدة للابتعاث ليكون جزءاً من حراك التعاون الدولي للجامعات وليكون جله لغرض إكتساب خبرات دولية وليس درجات علمية، عبر برامج التبادل الطلابي الدولي أو الابتعاث لفترات قصيرة للمتميزين من الجامعات السعودية لمدة فصل أو فصلين دراسيين في مختلف دول العالم. هكذا يفعل العالم بدليل أن الولايات المتحدة وهي قبلة المبتعثين العالمية تبعث حوالي نصف مليون طالب سنوياً للحصول على تجارب دولية في أوروبا وكندا وغيرها من الدول لمدة فصل أو فصلين، ومثلها تفعل كندا التي تتفاخر بأن طلابها المبتعثين للحصول على تجارب دولية في مختلف الدول يبلغ 250 ألفاً وتطمح في رفع العدد إلى نصف مليون. التبادل الطلابي والمعرفي الذي ننشده سيرتقي ليس فقط بمستوى الطلاب ومنحهم خبرات دولية بل بمستوى الجامعات السعودية حيث سيعود أولئك الطلاب للدراسة بجامعاتهم وسيستقطب طلاباً وأساتذة من دول أخرى ...إلخ. علينا التخلص من فكرة أن البعثة أو حتى الشهادة الجامعية هي لسد حاجة وظيفية فقط.
إذا افترضنا إرسال الطالب للحصول على خبرة دولية لمدة عام دراسي بدلاً من الابتعاث لمدة خمس سنوات، فإننا نحصل في النهاية على منح الفرصة لخمسة أضعاف أعداد المبتعثين وفق النظام الحالي. أو 500 ألف طالب بدلاً من 100 ألف طالب. مع اقتراح الإبقاء على برنامج للمتفوقين من خريجي المرحلة الثانوية في حدود معقولة وفق أسس مثل نتائج الثانوية واختبارات التحصيل والقدرات، دون قيود على التخصص ودون تعقيدات ذات علاقة بالقبول المباشر أوتصنيف الجامعات الذي نعرف عدم دقته. كما لا يمنع الإبقاء على البرامج التخصصية المطلوبة مثل الدراسات العليا أو البرامج المهنية – مثال البرامج الصحية- عن طريق الجامعات ومؤسسات الدولة المختلفة.
الأمر الآخر الذي يحتاج إعادة نظر يتمثل في الآليات الاقتصادية والتمويلية والإدارية للبعثات وقد يكون مناسباً تأسيس صندوق للتبادل المعرفي وتخلي وزارة التعليم عن إدارة برنامج الابتعاث وفق الطريقة التقليدية الحالية. ستكون مهمة الصندوق دعم القطاعات المختلفة في مجال التبادل المعرفي وتنمية الموارد اللازمة لذلك ...إلخ. بل ويمكن تنمية موارده عن طريق القطاع الأهلي والاستثمار وبرامج الادخار الاسثتماري للابتعاث، الذي يساهم فيه أولياء الأمور لضمان مستقبل أبنائهم التعليمي، بالتنسيق مع المؤسسات المالية ذات العلاقة، وغير ذلك من التفاصيل التي سبق أن اقترحناها. استخدم مصطلح المعرفي باعتباره مسمى أشمل ويحوي دعم المنح الدراسية والبعثات والتبادل الطلابي وتبادل الأساتذة والتعاون البحثي والأكاديمي ...إلخ.