د. محمد عبدالله الخازم
تحتفل المملكة عبر هيئة الترفيه بصوت الأرض - اللقب المفضل لدى محبيه - وذلك بعد أكثر من عقدين من الزمان. طلال مداح ظاهرة فريدة في الفن السعودي فرغم وفاته - رحمه الله - منذ سنوات بعيدة لا زال يحتل وجدان كل من يحب الموسيقى والغناء باعتباره أحد مؤسسيه وسبب شهرته. بل إن تسابق أكثر من ثلاثين فناناً وفنانة على المستوى العربي على المشاركة في الاحتفاء بفن طلال وذكراه دليل على شهرته وعلى جودة ما كان يقدمه وعلى تاريخه وعلى إنسانيته. وحتى قبل هذا الاحتفاء، يكثر ترديد أغانيه من قبل الفنانين في مختلف الدول العربية، مما يؤكد على التقدير الكبير لفنه.
الفنان يعيد أغاني غيره من الفنانين؛ إما لأنها تعجبه، أو لأن لها جمهوراً يريد كسبه إلى جانبه، أو لأنها تكسبه الشهرة، وكل ذلك اجتمع في فن طلال. طبعاً مع بعض الغصة في تعدي أو إعادة أغاني الراحل طلال مداح من قبل هواة لا يراعون حقوق الملكية الفكرية ولا يجيدون الأداء كما يليق بصوت الأرض.
سيكتب عن تاريخ الفن وعن طلال الإنسان، أما أنا فمجرد محتفٍ بطلال موضحاً التفريق بين المغني والفنان. تحن إلى صوت بلادك، فتذهب بلا تردد إلى سماع (صوت الأرض) الراحل طلال مداح. وتفرح عندما تجد أن قوقل تحتفي بذكراه في صفحتها الأولى ومحبوه يتداولون مقاطع أغانيه التي تمثلهم في حب الوطن، في العشق، في الوله، في السهر، في الشجن، في الشكوى، في الفرح، في الغربة، في الحب، في الجفا، وفي كافة أحوالهم. العجيب في ظاهرة صوت الأرض هو أنه رغم تعتيم القنوات الإعلامية الفنية وعدم بثها أغانيه، ورغم أنه يمثل شريحة عمرية سابقة ورغم أنه انتقل إلى رحمة خالقه منذ 22 عاماً، لازال ضمن أعلى المطربين الذين يُسمع لهم. طبعاً لن نقول المبيعات حتى لا يحتج علينا الأحياء فأغلب تراث طلال الغنائي متاح بالمجان لجمهوره عبر وسائل الاتصال الحديثة.
عندما نحتفي بالوطن فإن أول أغنية نفكر في سماعها هي «وطني الحبيب» التي غناها طلال قبل عقود طويلة من الزمن وعندما نحتفي بالصباح نبعث لأحبتنا «وردك يا زارع الورد.. صبح صباح الخير»، وعندما نشجع المنتخب ندندن «ياناس الأخضر لا لعب» وعندما تتعب أحبتنا الهموم نشاركهم «تعالي نقسم الشكوى» وفي نهاية الأسبوع «أحلى الليالي تراها ليلة الجمعة» ومع صوت المطر نتخيل «طفلة تحت المطر» يبتل شعرها وفي منتصف العمر نحتفي «بالأربعين من العمر».. وهكذا طلال يرافقنا في كل حالة. وحتى عندما احتفينا بعكاظ والطائف رددنا «جينا من الطايف والطايف رخا والساقية تسقي ياسما سما».
لفهم ما يميز صوت الأرض عن غيره من المطربين أو المغنين، نحتاج التفرقة بين مفهومين، ليس شائعاً التفريق بينهما لدينا. تحديداً، هناك Artist وهناك singer وفق المفهوم باللغة الإنجليزية والفرق بينهما أن الأول يتجاوز مجرد الغناء إلى التأليف الموسيقي والاكتشاف والتجريب في اللحن والكلمة وبفعل هذه الشمولية يتحول إلى مدرسة داعمة ومكتشفة للأصوات المختلفة لأن الإبداع لديه يجعله منفتحاً على مهمة الأستاذ الداعم والمحفز. فهم التعريف يساعد في فهم لماذا ذهبت جائزة نوبل في إحدى السنوات بوب ديلان، باعتباره Artist وليس باعتباره مجرد مطرب أو Singer وهو التصنيف الذي قاد بعض من لا يفرقون بين المصطلحين إلى التذمر من تلك الجائزة. هذه العينة أبرز من يمثلها لدينا طلال مداح وأبو بكر بالفقيه رحمهما الله، بينما الثاني ويقع ضمنه غالبية مطربينا السعوديين هو إجادة الغناء فقط، يمتلكون حنجرة جيدة لأداء لون تقليدي لكنهم لا يملكون القدرة على التأليف والتجريب والتنويع والاكتشاف وبالتالي هم فاقدون لمعنى الأستاذية لأنه لا معنى ولا فكر ولا فلسفة أو روح تدعم تتويجهم بذلك.
طلال مداح كان أستاذاً بدعم المواهب، وبتأليف وتجريب أنواع الموسيقى والشعر واللحن المختلفة وبالعزف على أكثر من آلة، وغير ذلك. أنظر المطربين الذين لحن لهم طلال والشعراء الذين تغنى بأشعارهم، تجد أنه كانت تحكمه المهنية والأستاذية والذائقة أكثر منها مجرد دعم المشهور مطرباً كان أو ملحناً أو شاعراً.
طبعاً لكل مطرب جماهيره وتقديره، حيث السماع ذائقة بالدرجة الأولى، لكننا هنا نشرح ظاهرة طلال أو صوت الأرض كما تسميه الجماهير أو زرياب كما لقبه الموسيقار محمد عبدالوهاب. ظاهرة النجومية التي تتنامى رغم موت صاحبها. رحم الله طلال مداح، وأشكر الجهات المعنية على تسمية مسرح بإسمه (مسرح المفتاحة) تجاوب مع مطالب منها ما كتبناه عام 2018م وعلى الاحتفاء به هذا العام ضمن موسم الرياض الترفيهي، إلخ. وبما أنه بدأ في تدريس الموسيقى في المملكة، نرجو أن يكون هناك مدرسة باسمه أو كرسي أبحاث أو جمعية مهنية أو منحة دراسية، أو غير ذلك، عرفاناً بكونه صوت الأرض السعودية وأيقونة الفن السعودي التي لا تغيب شمسها وإن غاب صاحبها، رحمه الله وغفر له.