د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
حين تستبد العاطفة بالمرء يغيب عقله، ويتعطل فهمه، ويتخلف إدراكه، وينساق وراء ما يسمع حتى يبلغ حدّ المكابرة وركوب الرأس فينطبق عليه المثل «أقول تمرة ويقول جمرة»، «أقول جمل ويقول احلبه»، «أقول له تيس ويقول احلبه) (الجهيمان، 1/ 220)، والمثل (عنز ولو هدرت)، (عنز ولو طارت) (الجهيمان 4/ 430).
وهذه حكاية سمعتها عرضًا في (اليوتيوب) كان يشاهدها من كنت إلى جواره، فبحثت عنها بعد ذلك لأتحقق مما سمعته، وكان عنوان المادة المسجلة (الشيخ الشعراوي يحل أزمة كبيرة عجز عن حلها كبار أطباء وعلماء أوروبا)، تذكر القصة أن الشيخ، رحمه الله، كان راقدًا في مستشفى أوربي، وفي تلك الأثناء دخلت المستشفى امرأتان على وشك الولادة، فولدتا مولودين ذكرًا وأنثى، ثم إن الممرضات نقلوهما إلى مكان المواليد من غير علامات مميزة، فاختلط الأمر على الوالدتين؛ إذ لم تعرف أيهما مولودها، ولم يستطع من في المستشفى ممرضون وأطباء معرفة لمن الذكر ولمن الأنثى، والغريب أنهم أجروا تحاليل لمعرفة فصيلة الدم فصادف أنهما متطابقتان، وجربوا أن ترضع كل امرأة المولودين لمعرفة من يقبلها ومن لا يقبلها، وكانت المفاجأة أن المولودين قبلا الرضاعة من الوالدتين كلتيهما بلا تفريق، ولم ينجح جميع أطباء أوربا [هكذا] أن يحلوا المشكلة، ولا أعلم أجربوا فحص الحمض النووي أم لم يجربوه، فالقصة عدّت عن هذا، المهم أن طبيبًا تفطن إلى أن المسلمين يقولون إن في القرآن جوابًا عن كل شيء، وإذا بهم يتوجهون إلى الشيخ المسلم الشعراوي، ويعرضون عليه المشكلة، فيهون الخطب عليهم، ويذكر لهم ما في القرآن، وهو أن (للذكر مثل حظ الأنثيين)، وأوصاهم بفحص نسبة الدسم في حليب المرأتين فمن دسم حليبها ضعف دسم الأخرى هي أم الذكر، وفعلوا ما أوصاهم به الشعراوي فأفلحوا.
ويمضي الراوي إلى غرضه بعد ذلك فيزعم أن عددًا من الأطباء يزيدون على ثلاثين أسلموا فورًا. وأوصى بتداول القصة.
حين أنكرت صحة القصة جملة وتفصيلًا لمن كنت إلى جانبه امتعض ودعا لي بالهداية.
لا يمكن أن يقبل العقل كل هذه الصدف، تطابق في الشكل وتطابق في فصيلة الدم وتطابق في قبول الرضاعة، وأدهى من ذلك أن يعجز جميع أطباء المستشفى بل أطباء أوربا عن حلّ المعضلة، وكيف يقبل العقل أنهم لم يفكروا بفحص الحمض النووي الذي لا يمكن أن يتطابق. أقول هذا إن تجاوزنا إمكان إهمال المستشفى لإجراءاته المعتادة من وضع سوار فيه معلومات الوليد.
ونعود إلى أن (للذكر مثل حظ الأنثيين) ليس قانونًا عامًّا بل هو لحالة من حالات الفرائض فقد يكون حظ الذكر والأنثى واحدًا. جاء في (العدة شرح العمدة (ص: 354) «وإن استووا قسمت المال بين من أدلوا به، وسويت بين الذكر والأنثى إذا استوت جهاتهم منه، فلو خلف ابن بنت وبنت بنت أخرى وابنًا وبنت بنت أخرى قسمت المال بين البنات على ثلاثة ثم جعلته لأولادهن للابن الثلث وللبنت الثلث وللابن والبنت الأخرى الثلث الباقي بينهما نصفين. أصلها من ثلاث وتصح من ستة، وإنما استوى الذكر والأنثى من ذوي الأرحام في الميراث لأنهم يرثون بالرحم المحض فاستوى الذكر والأنثى كولد الأم، وعنه (للذكر مثل حظ الأنثيين) لأن ميراثهم يعتبر بغيرهم فلا يجوز حملهم على ذوي الفروض».
ثم كيف عرف الشيخ الشعراوي حكاية دسم اللبن ولم يعرفها أحد من أطباء أوربا؟
وكيف يكون لبن من ولدت توأمين ذكرًا وأنثى؟ هل سيختلف دسم لبنها وفاق من يرضع؟
وكيف سيكون لبن من تمارس الإرضاع تكسبًا؟ أيتلون بحسب من ترضعه؟
هذه القصة الغريبة ألفت على طريقة القصّاص منذ القدم، مهمتها وعظية، ولا تلتفت إلى مخاطبة العقل لاطمئنانها إلى القلوب التي يطربها سماع ما تريد، وإن يكن من نسج الخيال ومن الأكاذيب التي تتفوق على أكاذيب الأعراب.
ألا يحق لنا أن نسأل: أيها العقل أين أنت؟