د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
هذا كتاب أبدع نسجه الأستاذ العالم النحوي الدكتور فريد بن عبدالعزيز الزامل السليم، وأوّل ما يأخذ بانتباه القارئ هذا العنوان الغريب الذي اختاره الدكتور فريد تلبية لشغف نحوي لغوي بألفاظ هذه اللغة الخالدة التي نحس أنّ علينا واجب تجديد استعمال ألفاظها التي أهملت؛ إذ لا تكاد يتداول في فصحانا من أمثلة (فَعَلوت) سوى (جَبَروت)، وأما لفظا العنوان «فالرَّحَمُوتُ وَالرَّهَبُوتُ مصدران بمعنى الرَّحْمة والرَّهْبة»(1)، ولكن يأتي عنوانه الشارح «حكاية قرن ووحي صحبة» ليجلي الغرض ويكشف عن المقصود، ومما يثيره العنوان دلالة واو العطف، فالواو في الغالب لمطلق الجمع، أي إن الرهبة لا تسبق الرحمة بل هما متمازجتان؛ فرهبة الابن التي يحسها لأبيه لا تنفك عن إحساسه رحمته. ولعل للترتيب مساغًا، فرهبة الصغير للكبير أول أموره وأظهرها ولكنه حين يشب عن الطوق ويشتد عوده يدرك ما وراء مظاهر الرهبة من رحمة، ربما يزويها المثل الشعبي (صياحه ولا صياح عليه)، قبول بأهون الضررين.
صدر الكتاب عن دار الثلوثية للنشر والتوزيع في عام 1444هـ، وقد أكرمني الصديق الدكتور فريد بأن أقرأ الكتاب قبيل نشره، وكنت خشيت أن يكون كتاب نحو أو لغة فيه من الجدّ ما يبعث على السأم؛ ولكن العمل فاجأني مفاجأة عظيمة جدًا، فهو كتاب رائع كلّ روعة، إذ يجمع بين الطاقة الكتابية العجيبة والقدرة على الاستقصاء والضبط البحثي، فهو يعامل موضوعه معاملة الباحث الدقيق المتقن المزود بالتواريخ وبالتوثيق الجيد.
والأمر اللافت ما يتصف به العمل من القدرة السردية، فما كتبه الدكتور فريد، في نظري، هو في جانب من جوانبه عمل سردي لا يقل عن الأعمال السردية المحتفى بها، والحقّ أني كنت نويت أن أقرأ الكتاب مُنَجَّمًا؛ ولكن حينما بدأت به دعاني فلم أدعْه، فقد ملك عليّ نفسي، تركت كل شيء وواصلت القراءة، فالكتاب ممتع غاية الإمتاع، وهو إلى الجانب السردي الجميل الذي يبهجك بحكايات وقصص ومواقف يحفل بقيم تربوية عالية، عمادها هذه العلاقة بين الأب والابن، وتربية الأب لابنه هذه التربية الصالحة المثمرة.
الكتاب على خصوصية مضمونه يشير إلى مثال رائع من أمثلة المعلمين في مدارسنا، من هذا الجيل الذي ينتمي إليه الوالد، هو الجيل من المعلمين العظماء، بله ما لهم من قدرة علمية وتمكن في التعليم فلهم أخلاق ومبادئ بها استطاعوا أن يكون لهم التقدير والحظوة والمكانة الاجتماعية اللائقة بهم بسبب ما يتصفون به من انضباط ومن حسن رعاية تربوية؛ فهم لا يعلمون فقط ولكنهم أيضًا يربون، وما وصفه الدكتور فريد من تشدد في والده قد يبلغ درجة التحكم أو شيئًا من هذا القبيل في نظر بعض الناس؛ مفيد من جوانب مختلفة، فلا يفسد التعليم إلا التساهل والتهاون وترك الأمور هينة للطلاب وللمعلمين، وهو أمر ظهر على مستوى التلقي عند المتأخرين.
قدم الدكتور فريد لنا في كتابه (رهبوت ورحموت) مثلًا مشرقًا لشخصية تستحق الاحترام والتبجيل، إذ هي صورة مشرقة لرجل من رجال بلادنا الذين نعتز بهم.
وأحسن الدكتور فريد كثيرًا في أنه جمع بين الإتقان الإحصائي والجمال السردي وصاغ ذلك في هيأة لم يجُر فيها أحدهما على الآخر، فكان في عمله نوع من التوازن الذي لا يمل معه القارئ، تحية وتقدير للصديق الدكتور فريد.
** _ _ ** _ _** _ _ ** _ _**
(1) ابن يعيش، شرح المفصل، 4: 183.