د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
رحم الله أخي عبدالله، كان أقرب أخوتي إلي سنًّا، فكان أن أخذ على عاتقه جزءًا من تربيتي؛ إذ كان حريصًا أن أتجنب الاختلاط ببقية الصبيان، فلعله أحس اختلافًا في الطباع والعادات بيننا وبينهم، نحن انتقلنا من ضاحية (نبعة)، وهي ضاحية صغيرة متجانسة السكان والعادات، كان من عادتنا التي ألزمنا بها تجنب استعمال اللعن أو الطعن، تمثلًا بالحديث «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي طَعَّانًا وَلَا لَعَّانًا»، لم يكن أخي يثق كثيرًا بهؤلاء الصبية، فكان يسألني متى رآني أصحب أحدهم من أين جئتما؟ وإلى أين ذهبتما؟ كان يظهر لي القسوة ويتكلف ذلك تكلفًا؛ ولكني لم أكن أعلم تكلفه؛ فكنت أخاف منه وأخشى غضبه، ولكني مع ذلك كنت أحبه وأخشى عليه، وكم أحزنني يوم تردت صحته لإصابته بالصفراء التي لم يكن لها علاج في بلدتنا سوى الكي، رأيت في ذلك اليوم أحد جيراننا وهو طبيب شعبي جاء ومعه سيخان ينتهي كل واحد منهما بحلقة، وضعهما في النار حتى احمرتا وكوى بحلقة كرسوعه الأيمن وبالأخرى كرسوعه الأيسر، وهو صابر مسلم أمره إلى الله، وما زاد حزني أني أراه محجوبًا لا ينال من الزاد إلا قرصًا من القمح خفيفًا لا طعم فيه ولا أُدْم، تصنعه له والدتنا رحمهما الله. أمضى سبعين يومًا على هذه الحال.
قيل إنه أصيب بأكله بعض الطيور النيّئة، ومع ذلك لم يمنعه ذلك مما فعله (ليلة الخواطيف)، والخواطيف طيور مهاجرة (يعرفها الإنجليز بلفظ السنونو) تحل بلدنا وهي في طريق رحلتها، دعاني تلك الليلة إلى مساعدته في اصطياد طائفة منها؛ إذ أوت في المغرب في سقف دكان حديث الإنشاء، فكان يصعد ويستخرجها من مكمنها ويسلمها لي لأقبضها، وأذكر أنه أخذ عصفورًا فلما أمسكته مع الخواطيف أدرك أنه ملاق حتفه فغلب الفرق على قلبه فهلك من فوره، وأما الخواطيف فلم تكن تعلم من مصيرها شيئًا.
كان أخي عبدالله مختلفًا عن أخويه فهو أكثرهم مرحًا ودعابة، وله ميول أدبي وفني ما رأيته في أخوي الكبيرين، ولعل لصداقته الشاب الظريف المدهش محمد بن عبدالله الحسين أثرًا في ذلك، إذ رأيته يحاوره في الأدب والروايات، وكان أن استعار منه رواية طويلة لإحسان عبدالقدوس (في بيتنا رجل)، ولا أعلم متى بدأ في قراءتها؛ ولكن المؤكد أنه سهر ليلته حتى فرغ من قراءتها، وأما الأشعار فكان في بيتنا بعض الكتب اليسيرة منها كتاب (جواهر الأدب) لأحمد الهاشمي، رأيت أخي منكبًّا عليه يحفظ مختارات منه ثم يكلف أحد أفراد الأسرة أن يتابع إنشاده ما حفظ.
حين عُيّن في المدرسة الخالدية الابتدائية كلف تعليم مقرر التربية الفنية، وهو مقرر يحبه الطلاب ويترقبونه لما فيه من التسلية وسلامته من العقاب؛ ولكن المشكلة التي واجهته هو وطلابه قلة الإمكانات، فليس الورق متوافرًا ولا أقلام الرسم، سمعته وهو يتكلم مع زميله عبدالله بن عبدالرحمن المقبل معلم التربية الفنية في المدرسة السعودية، سمعته يصف الحال بشيء من الأسى الممزوج بالمرح، وكيف أنه وجد نفسه مضطرًّا إلى استعمال ظهور اللوحات القديمة التي سبق أن رسمت.
جاء وقت تهيأ لأخي أن ينتقل للتعليم في المدرسة السعودية، ولكن لم يكن بالإمكان أن يعلم مقرر التربية الفنية فلها معلمها في هذه المدرسة، ولذا كلف تعليم مقرر آخر مختلف تمام الاختلاف عن التربية الفنية، ولكن شغفه بالفن وتعلقه به هداه إلى فكرة أخرى، وهي أن يزاول نشاطًا غير صفّي، بادر إليه هو مبادرة، إذ ألّف فرقة إنشاد، فاختار ثلاثة من طلاب المدرسة تميزوا بحسن الصوت، وكان يختار لهم من الأناشيد أعذبها، ولست أعلم من أين يهتدي إليها، وهو بعد ذلك يلحنها لهم، وأسعد تلك الفرقة وجود طالب يجيد العزف على الناي، وهو طالب ماهر حيي لطيف، كان أخي يدربهم بصبر، حتى إذا كان حفل المدرسة، الذي يُعد من أهم الأحداث التي تكون في بلدتنا، تأتي الأناشيد التي تصدح بها هذه الفرقة الرائعة، والعجيب أن تتنوع ألحان الأناشيد، ولما رأى أخي نجاح هذه التجربة وإعجاب الناس بها سجلها على أشرطة، وأخذها معه لما زار مدينة الرياض في الصيف، وهناك مضى إلى إذاعة طامي وكانت الإذاعة الوحيدة في الرياض أنشأها شاب من أهالي بريدة بجهده الخاص وبمعرفته الهندسية الخاصة بالآلات.
وكنا نسمع هذا الإنشاد من إذاعة طامي ونحن في المذنب وإن لم تكن قوية قوتها في الرياض وما حولها. وهو مع ذلك مهموم بأمر بلدته؛ إذ نشرت له صحيفة القصيم مقالتين إحداهما يطالب فيها بإنشاء وحدة زراعية، نشرت في 29/ 07/ 1382هـ، العدد 155، وأما الأخرى فكانت في 02/ 11/ 1382هـ، العدد 162، وفيها يؤكد المطالبة السابقة.
انتقلنا إلى الرياض بعد سنوات، وانتظمت في المدرسة الثانوية، ولكني أحسست خللًا في بصري، وطلبت أن أحصل على نظارة تعينني؛ ولكن أخي شكّ في أمر هذا الطلب؛ إذ خاف أني أريد أن أتجمل بالنظارة، ولكن هذا الخاطر لم يمنعه من مصاحبتي إلى الطبيب ثم شراء نظارة.
أحسست دائمًا باهتمام أخي لأمري، وكنت أستشيره فيحسن المشورة بما له من رصيد التجربة، ولا أنسى أنه هو من أقنع أخي محمدًا ليسافر إلى الكويت ليشهدا مناسبة القران، ولا أنسى أنه جاء هو وأخي محمد إلى القاهرة ليحضرا مناقشة رسالة الدكتوراه، ثم يفاجئنا بأنه أعدّ غداءً لشهود تلك المناقشة. رحم الله أخي رحمة واسعة.