د.عبد العزيز سليمان العبودي
دخل رابح من الباب الرئيس لبهو الجامعة فرأي ضخامة المبنى وارتفاع السقف وهدير المكيفات والعدد الكبير للطلاب تبتلعهم الأبواب دخولاً وخروجاً من مختلف الجهات فأحس برعشة سرت في جسده. وقارن ذلك بمبنى الثانوية المستأجر الصغير في إحدى القرى السعودية، فوجد أن معادلة المقارنة أنتجت رقماً مقسوماً على الصفر، فأصبح ناتج الفارق لانهائي. تلك الرعشة بعثت في روحه الحماس وفي جسده النحيل القوة، ليبقى خمس سنوات بين أروقة كلية الهندسة، ثم ليخرج من نفس الباب الذي دخل منه قبل خمس سنوات. وبعد «طواف وداع» كما يسميه الطلاب آنذاك لتوقيع إخلاء طرفه من إدارات الجامعة المختلفة، محملاً بشهادة البكالوريوس، وشغفٍ منقطع النظير لممارسة تلك المعارف التي تعلمها وتطبيقها على أرض الواقع. هذا الطواف تكرر مرة أخرى ولكن خارج الجامعة وبين أروقة أرباب العمل، يُسلم لهم نسخاً من تلك الشهادة والسجل الأكاديمي، فلا يلبث أن يغادر المكتب حتى تبدأ آلة تمزيق الورق مهمتها في المساهمة بإعادة التدوير لتحقيق الاستدامة للكراسي التي لا تدور. لكن إحدى هذه الآلات غفلت عن تمزيق أوراقه، لعله بسبب دعوة صالحة بوقت استجابة، فكانت الوظيفة التي لملمت شعث جسده. لكنه وجد نفسه يعمل في مكان لم يلبِ طموحه، ولكنه قد يلبي حاجة جيبه، ويبقي حبل الطموح ممدوداً لمكان آخر يقبع بمخيلته. حتى بات يشعر وكأنه صائغ يعمل في ورشة حدادة. فيتحسر أن هذا الجهد والوقت يضيع على هذا العمل، وحتى صاحب العمل، لم تعجبه تلك الجواهر الحديدية المصاغة بإتقان. ذاكرته لا تزال محملة بأول دخول له إلى بهو الجامعة، فعاد إليها بعد سنتين من تخرجه منها، لعله يستعيد تلك اللحظات من الحماس والشغف، فقدم أوراقه لدراسة الماجستير. وفي أول أيام الدراسة انتقل من عمله الذي يرى أنه قتل فيه الشغف، إلى مكان آخر يأمل أن يكون الأنسب لصياغة جواهره العلمية. توجهت الرياح مع رغبة سفينته فأقلتها إلى شاطئٍ. لكن هذا الشاطئ لم يكن الذي ترقبه ربان السفينة، مع أنه هو الذي رسم مخططاتٍ لبلوغه. فلا العمل راق لرابح ولا دراسة الماجستير أعادت شغفه وطموحه، استمر في مجاهدة نفسه حتى أنهى مقررات الماجستير وسجل الرسالة وابتدأ الكتابة فيها. أما عمله، فقد انتقل من قسم التشغيل إلى قسم الأبحاث وهو الأقرب إلى توجهاته ورغبته.
كان الصراع بينه وبين نفسه قد وصل إلى أعلى مراحله، حتى أنه ترك أثراً على بيته وأهله. فكانت كتب تطوير الذات وكتب التغيير، هي ما يملأ فيه بقية وقته ليشحن طاقته و يزيح قطعة الجبن عن متناوله، ليفكر بعقل جديد، ورؤية مختلفة. تصاعدت هذه الأفكار وتنازعت فيما بينها حتى وصل إلى مرحلة التفكير بتغيير نفسه بالكامل. ثم تساءل، كيف يمكن تنفيذ ذلك؟ وهل من الممكن أن يطبق التغيير الشامل على نفسه ؟ فقاده تفكيره إلى قناعة تغيير كل شيء في حياته ابتداءً من اسمه (رابح). فعلى الرغم من المعنى الجميل الذي يحمله هذا الاسم، ولكنه كان كثيرا ما ينزعج من جملة (شكلك خاسر ولست برابح)، فقال في نفسه: هذه الأسماء كالأرقام التسلسلية للمنتجات، لا ينبغي أن تحمل أي معنى. فتوجه للأحوال المدنية وطلب تغيير اسمه، فسأله موظف الأحوال عن الاسم الذي يرغب، فرد رابح: ليس في بالي أي اسم، فقال الموظف: يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال (إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ) فرد رابح: إذاً سجل عندك اسم (عبدالرحمن). ذهب رابح أو عبدالرحمن إلى مقر عمله وقدم استقالته، و ذهب إلى صاحب الشقة فألغى عقد إيجاره، وانتقل لشقة جديدة في حي آخر، وفصل أثواباً جديدة، هكذا فهم التغيير. ركب سيارته بدون وجهه، وبدون هدف، حتى نزل من طلعة القدية، وهو لا يدري أين يتوجه. فورده اتصال من فهد، زميله في مرحلتي البكالوريوس والماجستير. ومع أن تخصص فهد في المجال الهندسي إلا أنه صاحب فكر وأدب، ولديه اهتمامات في مجال علم النفس والاجتماع. فكان عبدالرحمن يرتاح لسماع صوته ويأنس برأيه. بعد سؤاله عن حاله قال فهد: لي مده لم أرك في الجامعة فأدرت أن أطمئن عليك يا رابح. فرد عبدالرحمن: تركت كل شيء يخص رابح وحتى الجامعة سأتركها. قال له فهد: لا أختلف معك في ما فعلت، ولكن بشأن الجامعة، لم يتبق لك إلا كتابة الرسالة والمناقشة، فلو أجلت قرارك في التغيير لما بعد الماجستير. رد عبدالرحمن: ولكنني غير راغب التخصص وكذلك في موضوع الرسالة. قال فهد: لا تفكر في موضوع الرسالة المؤقت ولكن فكر في ما بعد الماجستير، فهي ستفتح لك أفقاً أوسع، وستفتح لك فرصة في مواصلة الدكتوراه فيما بعد؟ رد عبدالرحمن: نعم سأفكر فيما بعد الماجستير بتغيير التخصص وسوف آخذ بنصيحتك هذه. عاد عبدالرحمن، واتجه للجامعة، ثم لمكتب المشرف على الرسالة، الدكتور عبدالادر، الذي انهال عليه لوماً وتأن يباً بسبب تأخيره و غيابه. فلاذ عبدالرحمن بالصمت حتى أنهى مشرفه الكلام، وعاد إليه الهدوء. قال عبدالرحمن: أريد إتمام رسالة الماجستير بأسرع وقت. رد الدكتور عبدالقادر وأنا كذلك، أريد أن انتهي منك بأسرع وقت. بعد شهرين، ناقش عبدالرحمن رسالته، وفور انتهاء المناقشة، ذهب إلى زميله الياباني في عمله الأول توشيوكي، وقال له: أريد أن أدرس الدكتوراه في اليابان، هل يمكنك مساعدتي في ذلك ؟ فرد عليه هناك منح تقدمها منظمة التعاون الدولي اليابانية، ويمكنني أن أساعدك في تجهيز الأوراق. ولحسن حظك، هناك منحة، لدراسة الدكتوراه في تخصص أمن المعلومات في جامعة طوكيو، يمكنك التقديم عليها الآن. وكان ذلك في بداية الألفية الثانية، حيث توسعت الإنترنت في مجالات مختلفة، وزاد الاهتمام بأمن المعلومات.
بعد مضي أربع سنوات. حمل عبدالرحمن حقيبته على ظهره وأخذ طريق سينجوكو متجها إلى جامعة طوكيو، توقف عند متجر لوسن، واشترى عدداً من قطع السوشي، وعلبتين من مشروب الموغيتشا ووضعها في حقيبته. ثم استمر إلى كلية الحاسب. قابل مشرفه الأكاديمي البروفيسور سوشيرو ، واتجها إلى احد القاعات الدراسية. بدأ عبدالرحمن في تقديم عرضِ اطروحته للدكتوراه أمام مجموعة من أساتذة الكلية وطلاب الدراسات العليا. وبعد انتهاء المناقشة، أخذه البروفيسور سوشيرو إلى مكتبه. وقال: مبروك يا عبدالرحمن، اليوم أنت الدكتور عبدالرحمن وأمامك عالم جديد من التحدي والنجاح. وسوف أعرض عليك عرضاً، قد يصعب أن تحصل على مثله فيما بعد. بنهاية هذا الشهر تنتهي علاقتي بالجامعة، لوصولي لسن التقاعد، وسأنتقل إلى أحد المكاتب الاستشارية، وأريدك معي هناك فهل توافق؟ تفاجأ عبدالرحمن من هذا العرض وفكر بعودته للسعودية، ثم رحلة البحث عن عمل مرة أخرى، مقابل هذه الوظيفة الجاهزة أمامه والتي سيحصل من خلالها على خبرات، لا يحلم بالحصول عليها في مكان آخر. هذا النقاش الداخلي، جعله يطلب من المشرف الأكاديمي أن يعطيه فرصة للتفكير قبل الرد النهائي. عاد إلى شقته الصغيرة، وبدأت مرحلة دراسة القرار النهائي من جديد، فبدأ بالاستخارة، ثم رسم مصفوفة اتخاذ القرار، وبدأ يحدد العوامل المؤثرة، و التي سيحكم من خلالها باختيار أحد القرارين البقاء أو العودة، فوضع مجموعة من العوامل مثل (الخبرة، الاستقرار الوظيفي، العائلة، وغيرها). جمع الأرقام حتى استقرت عنده الحسبة. فاتجه إلى الأمر الثالث وهو الاستشارة. فحدد ثلاث أفراد ممن يرى أن مشورتهم ستكون متجردة، وخبرتهم كافيه، ورأيهم سيصب في جانب القرار الأكثر صواباً. فكان القرار النهائي الذي توصل إليه بعد تطبيق الأساليب السابقة بالعودة لأرض الوطن. رجع الدكتور عبدالرحمن إلى البروفيسور سوشيرو وقال له: أشكرك على هذا العرض المغري. لكني اعتذر عن قبوله. وأعدك بحضور حفل تكريمك بالجامعة قبل عودتي إلى أرض الوطن، فنجاحي سيكون هناك، وهناك لن أنقطع عن التواصل معك، فقد نعمل بمشاريع مستقبلية مشتركة.
** **
- جامعة القصيم