د.عبد العزيز سليمان العبودي
تلقى محسن اتصالاً من أخته تخبره أن والدته في المستشفى بسبب أزمةٍ صدريةٍ مرت بها، فتوجه بسيارته متجهاً من الرياض إلى الدمام. وفي الطريق بدأ شريط الذكريات والشخوص مع المواقف يمر بذهنه. فتذكر تخرجه من كلية الأعمال، ثم التحاقه للعمل بإحدى المؤسسات بالدمام، حتى انتقل إلى الرياض وتوليه منصب رئيس قسم التسويق في إحدى الشركات المتميزة هناك.
استهل شريط الذكريات بأمه التي تترقب ابنها البكر، حتى تميز علمياً ثم وظيفياً، وتعذره أو تجد له بعض العذر في انقطاعه عنها من أجل انشغالاته العملية، خاصة بعد انتقاله للرياض. وخلال زياراته المتباعدة، لا يبخل عليها حيث يقدم لها مبلغاً من المال ليسندها على تكاليف الحياة، فالراتب التقاعدي لوالده المتوفى لا يكاد يكفي مصاريف البيت. ثم انتقل شريط الذكريات إلى أخته الوحيدة، والتي تمنت أن يكون أخوها قريباً منها في بداية مرحلتها الجامعية، خاصة أنها فقدت والدها في طفولتها، فكان هو الوالد والأخ والمستشار، ولا يزال يتواصل معها هاتفياً ويشجعها ويمدها بالنصائح والمال كذلك. وبعدها انتقل لزوجته، فبعد سنة من زواجها وابتعادها عن أهلها في الدمام تشعر بفراغ كبير، فأغلب اليوم تقضيه وحدها في الشقة الصغيرة. فهو يخرج من عمله في الشركة ويتجه مباشرة إلى مكتب الدعاية والإعلان الذي يعمل فيه خلال الفترة المسائية لزيادة دخله، ثم يرجع منهكاً في العاشرة مساءً، فلا يكاد ينهي وجبة العشاء، حتى يخلد إلى النوم. وانتقلت الذكريات إلى زميله في العمل مهند، وكيف كانت شراسة المنافسة بينهما على منصب رئيس قسم التسويق، ثم استقالة مهند من المؤسسة بعد خسارة المنصب، لعدم رغبته في العمل تحت إشراف محسن. ثم تذكر مديره المباشر راشد، فقد كان كثير الثناء على تفانيه بالعمل، مع تنبيهه المستمر بتقليل انغماسه الشديد في العمل، وتخفيف حدة التعامل مع الموظفين، وتشجيعه على أخذ إجازة بين الفينة والأخرى لتجديد نشاطه وتحسين مزاجه. انتقل الشريط إلى حسام، وهو أحد الموظفين السابقين في الشركة. وكيف تسبب محسن في استقالته عبر ضغطه بأعمالٍ فوق طاقته. عادت ذكرياته إلى الخلف قليلاً، لمرحلة الدراسة الجامعية، وتذكر مرشده الأكاديمي الدكتور صالح، الذي لا يزال يتواصل معه. فقد كان يثني عليه ويصفه بالطالب الجاد والحريص على تحقيق التميز الدراسي، وكان الدكتور صالح يركز على أهمية تنمية مهارات التواصل الاجتماعي، عبر الانخراط بالأعمال التطوعية، وحضور الاجتماعات الأسرية. استمر شريط الذكريات، فقفز به إلى صديقه مروان. فقد كانت علاقتهما متميزة، ولكن هذه العلاقة بدأت تفتر وذلك لقلة التواصل بينهما بعد انتقال محسن إلى الرياض. ومع ذلك فالهاتف ووسائل التواصل عوضا بعض الشيء، خاصة حينما يتعرض أحدهما لمشكلة ويحتاج لمشاركة صديقه في حلها. استمر مسلسل الذكريات بين الموقف والناس حتى وكأنها ترسم الصورة الكاملة عن شخصية محسن يراها في تصرفاته مع الآخرين ومنعكسةً في تصرفات الآخرين معه. بدأ شريط الذكريات بالتلاشي حينما لاحت أمامه مباني مدينة الدمام، وازداد خوفه ألا يلقى أمه مرة أخرى، هذا الخوف الذي كان رفيقه طوال الطريق. فسأل الله لأمه الشفاء ولنفسه الخيرة في أمره.
وصل محسن إلى المستشفى، وذهب إلى الغرفة التي تنام فيها والدته، ورأى الممرضات حولها يجهزنها لنقلها للعناية الفائقة. وبعد ساعات، أخبره الطبيب بوفاتها. فشكل فراقها صدمة عميقة لديه، حتى أصبح مشلول التفكير، فلم يتخيل أن يعيش باقي حياته دون أمه. وحين زاره صديقه مروان للعزاء، سأله: ماذا ستعمل الآن وهل ستترك أختك وحدها؟ فرد عليه محسن: لا أدري في الحقيقة فقد تغيرت بوصلة حياتي فلا أعرف إلى أين أسير، أشر علي يا صديقي فقد ضاقت حيلتي. قال مروان: لقد افتتحتِ الشركة التي أعمل بها قسماً للتسويق، وطلبوا مني اختيار مشرفٍ مناسبٍ لهذا القسم، وتشكيل فريق العمل المناسب كذلك. ولا أرى أنسب منك للإشراف على هذا القسم. فهل يمكنك العودة للدمام، والموافقة على هذا العرض وبراتب أقل مما تتقاضاه الآن ؟ رد محسن: لقد استخرت الله على أمري، والخيرة فيما اختاره الله. وأنا موافق على هذا العرض وأترك لك يا صديقي التفاصيل. قال مروان: والأمر الآخر، أود منك المساهمة معي في لجنة التسويق التابعة لإحدى الجمعيات التطوعية، ولن يأخذ منك هذا العمل، إلا ساعتين في الأسبوع كحدٍّ أعلى. فرد محسن: هذا ما كنت أبحث عنه منذ زمن.
** **
- جامعة القصيم.