د.عبد العزيز سليمان العبودي
يقول ابن الجوزي في مقدمة كتابه صيد الخاطر «لَمّا كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى»، ويتابع «وكم خطر لي شيء فأتشاغل عن إثباته فيذهب، فأتأسف عليه ورأيت في نفسي إنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب فانثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه». والمقال هو صيد وتقييد للخواطر، عبر أسلوب انشائي قصير أو متوسط يركز على فكرة معينة ويكتب بطريقة واضحة ومناسبة لأنواع محددة من القراء أو للعموم، حسب موضوع الكتابة. ويتنوع المقال بين الاجتماعي والتأملي والفكري وكذلك الأدبي وغيرها. ولسان الحال لا يغني في الغالب عن لسان المقال، وإن اختلفنا أيهما أكثر بلاغة. فالمقال يمكنه بحاله ومآله، أن يصنع من الكلمات واقعاً متجسداً أمام القارئ يحسه ويلمسه ويتعايش معه.
وليكون المقال كافياً ووافياً، تم الاقتصار على سبعٍ سمانٍ، برأي كاتبها، تم صقلها وتنقيحها بعناية، فلا يتبعها بإذن الله سبعٌ عجاف، وذلك رجاء أن ينتفع بها المُقْدِمِ على الكتابة لتسانده في رحلته لامتطاء صهوة القلم وشق الطريق في هذا العالم، ولتحظى مقالاته القادمة بالقبول والانتشار بإذن الله.
عنوان المقال واسم الكاتب: في عصر الإنترنت ومحركات البحث، يستحسن للعنوان أن لا يكون مكروراً، بل ينبغي أن يحمل نوعاً من التفرد والتميز، بحيث لو بحثت عنه بعد النشر، لظهر في الصفحة الأولى في محركات البحث. كذلك من المهم أن يمتلك العنوان عنصر جذب للقارئ، حيث تصطف أمامه عشرات المقالات متزاحمة ليقرأها، والمحددُ في الاختيار سيكون عنوانَ المقال. وفي نفس الوقت، لابد أن يعبر العنوان عن الهدف الرئيس من المقال. وبالنسبة لاسم الكاتب، فعليه تحديده من أول مقال يكتبه، وانتقاء الاسم الذي يريد أن يعرفه الناس فيه، سواءً كان اسمه الكامل أو جزءاً من اسمه. مع الحرص على تجنب الأسماء المتكررة، مثل (محمد عبدالله) فهناك الآلاف ممن يحمل هذا الاسم. فيمكن أن يضيف الكاتب اسم عائلته القريب أو البعيد، أو قد يضيف الكنية، كما هو الحال في الكُتّاب الأوائل، ولا زال هناك من المتأخرين من يستخدمها، مثل أبو عقيل الظاهري، وأبو أوس الشمسان. ويمكن أن يضيف اللقب العلمي لاسمه إذا توفر، مثل (د.، م. ط.) تعبيراً عن (دكتور، مهندس أو طبيب). وقد يتحرج البعض من إضافته، كنوع من التواضع والبعد عن الكبر. والحقيقة أن هذه الألقاب إذا كانت حقيقية، فهي تعطي القارئ قدراً من الموثوقية في المعلومات الواردة في المقال، وكذلك تسهل إلى حد ما، من قبول المقال للنشر، ذلك لأن الكاتب يحمل درجة علمية تعطيه نوعاً من الخبرة في مجاله. أما الكاتب الذي وصل إلى مرحلة متقدمة من الخبرة والتميز والشهرة في الكتابة، فيكفي ذكر اسمه مجرداً لتتوجه إليه أعين القراء ولتتلقف أعماله الصحف والمجلات.
فكرة المقال ورأي الكاتب: لابد أن تكون فكرة المقال محددة، بحيث لا يتم الابتداء بموضوع ثم القفز إلى آخر. وللحصول على أفكار جديدة ومتميزة وجذابة كذلك، يوصي بعض الكتاب المتمرسين، بالاعتماد على وقائع حقيقية، ليتم كتابة المقال بناءً عليها. ويمكن أن يحتوي المقال كذلك على قصةٍ لجذب القارئ ودفعه ليستمر بقراءة بقية المقال. والحصول على القصص والحكايات يتم من خلال التواصل مع أطياف المجتمع المختلفة، عبر الأعمال التطوعية، أو حضور المجالس والمنتديات. فالاحتكاك مع الآخرين يساعد على كتابة قصص ورؤى وأفكار يمكن إحالتها إلى مقالاتٍ قابلة للنشر. فالإبداع يتزايد مع الخروج من المنزل و الابتعاد عن الشاشات، لإعطاء الأفكار الإبداعية الفرصة للاستمرار والتدفق. بالإضافة لذلك، على الكاتب أن يبذل جهداً في البحث والتدوين للحصول على معلومات قد تزيد عما يحتاجه و يتضمنه المقال، وبعد البحث والتدوين، يمكنه انتقاء أفضل المعلومات لجعل المقال أعمق واكثر مصداقية. وسيتعرف الكاتب على مقدار وأهمية المعلومات الزائدة عن الحاجة، بعد الاستمرار في كتابة المقالات والبحث في المصادر، حيث سيتكون لديه بنك معلوماتي يستطيع أن يسحب منه لمقالات لاحقة. ومن المهم هنا التنويه على اختيار مصادر موثوقة للمعلومات، ومن ثم عزو هذه المعلومات لمصادرها. وبالنسبة لرأي الكاتب في المقال، فلا يفضل الكثير من القراء، أن يفرض عليهم الكاتب رأيه وتوجهاته نحو موضوع المقال، ما لم يكن ذلك الكاتب أحد البارزين أو الخبراء في تخصصه. ولتفادي ذلك، على الكاتب أن يدعم مقاله، بالاقتباس من آراء الخبراء المتخصصين أو إجراء مقابلات معهم، مما يعزز من قيمة المقال. فالحوار يسهم في إحياء حبكة المقال، عبر تضمينها كفواصل بين الفقرات. كذلك يضيف الحوار أو الاقتباسات المباشرة نكهة ولونًا آخر للمقال. ويمكن إعادة كتابة الحوار أو الاقتباس إذا لزم الأمر لجعل رؤية المتحدث أكثر وضوحًا، بدون تشويه للمعنى.
الجملة الأولى والجملة الأخيرة: هدف الجملة الأولى في بداية المقال هو حث القارئ على قراءة الجملة التالية. ليستمر في قراءة بقية المقال. وحيث أن الجملة الأولى هي الجزء الأكثر أهمية فهي كذلك الأشد إجهاداً و استهلاكًا لوقت الكاتب. ومن الأساليب المناسبة لجمل افتتاحية جاذبة ما يلي: طرح سؤال: مشاركة مقولة مشهورة: استحضار خيال القارئ: التشبيه أو الاستعارة: ذكر إحصائية وغير ذلك). ويحرص الكثير من الكتاب على إيراد جملة في نهاية المقال، يتردد صداها في ذهن القارئ. يقول أحد الكتاب ينبغي أن تكون البداية ذات جاذبية والنهاية حاسمة وقوية. حيث سيبقى صدى النهاية القوية مع القارئ إلى وقت طويل ولكنه لن يتوصل إلى تلك النهاية إلا بمقدمة جذابة. واختيار المكان المناسب لإنهاء المقال كذلك في غاية الأهمية، حتى لا يشعر القارئ بأن المقال مبتور، أو يكرر نفسه. وقد ورد في رواية باولو كويلو (الظاهر أو الزهير) على لسان أحد أبطال الرواية «من المهم دائمًا معرفة متى يصل الأمر إلى نهايته». ففي بعض الأحيان تكتب النهاية نفسها عمليا. وفي أوقات أخرى، عليك أن تبذل جهداً حتى تجد النهاية المناسبة. وفي كلتا الحالتين، يمكن الحصول على خاتمة رائعة، عندما تتوفر مجموعة متنوعة من الأساليب اللغوية للاختيار بينها.
التعلم من الآخرين: أفضل طريقة للتعلم على كتابة المقالات، هي قراءة المقالات والأعمدة الصحفية المتميزة. ويمكن وضع المقالات ذات الصدى الأكبر من القراء في المفضلة لإعادة مراجعتها ودراستها وقراءة التعليقات عليها إذا توفرت. وهذا الأمر سيدرب الكاتب على تحليل الكتابة وتفكيك النص والقراءة بين السطور. ويمكن الاستفادة من مقالات الكاتبان عابد خزندار رحمه الله وعبدالعزيز الذكير، فهي مناسبة للمبتدئ في كتابة المقال ليتعلم منها. حيث أنها مقالات قصيرة، منهجية تتبع أسلوباً وطريقةً واضحة في الطرح، ابتداء من العنوان، إلى المقدمة والفكرة ثم أسلوب العرض السهل والصياغة السلسة، انتهاءً بالجملة الختامية، مع التزام صارم في عدد الكلمات المحددة للمقال. وفي مرحلة لاحقة، يمكن الرجوع لمقالات الطنطاوي في كتاب (مقالات في كلمات) وكذلك مصطفى أمين في كتاب (الـ 200 فكرة). حيث تتميز مقالاتهما بسلاسة الأسلوب وجمال العبارة بدون إسفاف. وفيها يتجلى رأي الكاتب الخاص وتجربته، وهذا كما ذكرنا سابقاً مقبولٌ ممن عركتهم الحياة وخاضوا تجاربها.
المفردات والصياغة اللغوية: من المهم أن يتوافق إيقاع الكتابة مع نغمة المقال. فإذا كان المقال يصف أحداثاً سريعة، فيمكن استخدام جملًا قصيرة. أما إذا كان المقال يصور قصة، فيمكن استخدام جملًا طويلة ومتدفقة. ويمكن المزج بين هذا وذاك في المقالات الطويلة لإبعاد شعور القارئ بالملل. والصياغة الواضحة للجُمل مع استخدام مفردات شائعة، تسهل المقال للقارئ وتجعله سلساً ميسراً للقراءة والفهم. ومع ذلك فالابتكار في إيصال الفكرة عبر التراكيب اللغوية البديعة، هو مطلب لكثير من القراء لرغبتهم بالجمع بين المتعة والفائدة من خلال القراءة. ويمكن للكاتب أن يتزود بالصياغات الأدبية والتراكيب اللغوية والمفردات المتنوعة عبر القراءة في الأعمال المتميزة سواء كانت شعراً أو قصةً أو مقالاً. ويمكن الرجوع لكتبٍ شاملةٍ لذلك، مثل جواهر الأدب لأحمد الهاشمي، ووحي القلم للرافعي والبيان والتبيين للجاحظ وكذلك العقد الفريد لابن عبدربه، وغيرها.
عوائق الكتابة: من أهم عوائق الكتابة والنشر هو الخوف من النقد. والنقد بشكل عام هو جزء من الممارسات الفكرية. ومع ذلك فقد يتحسس لذلك الكاتب المبتدئ ويمنعه الخوف عن الإقدام على نشر ما يكتب. لذلك ينبغي على الكاتب المبتدئ تجنب تضمين مقالاته المواضيع الحساسة، أو التي تحتوي على خلافات متجذرة في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك الحرص على الكتابة فيما يتقن ليقلل من النقد، ومع ذلك فليتوقع النقد لأنه عرض بضاعته على الجميع. ومن العقبات أيضاً، رفض المجلة أو الصحيفة نشر المقال لسبب ما أو بدون سبب، للمبتدئين من الكُتّاب، أو المتخصصين والمحترفين منهم. والكاتب المتميز لا يربط الرفض بنفسه، حيث أن الرفض والقبول هما جزءٌ من حرفة الكتابة. وما يتم رفضه، يمكن أن يكون مادةً مناسبة للمدونة الشخصية، أو لمجلة مبتدئة. ومن عوائق الكتابة أيضا، فقد المؤلف القدرة على إنتاج عملٍ جديد، سواء كان مبدئاً أو محترفاً، أو أن يكون لديه تباطؤ في الإبداع. هذا الفقد في القدرة على الكتابة وإنتاج أعمال جديدة، ليس نتيجة لمشاكل الالتزام أو نقص في مهارات الكتابة، ولكنها حالة قد يمر بها الكثير من المبدعين، وعندها فمن الأفضل التوقف عن الكتابة، حتى تأتي الفقرات والجمل بعد ذلك بيسر وسهولة، يوم غدٍ أو عند مهمة الكتابة التالية.
التحرير وإعادة التحرير: من المهم إعادة قراءة المقال وتحريره من جديد بعد الانتهاء من كتابته، وذلك لتكون الفكرة واضحة ومفهومة والعبارات سلسة ومتسقة، مع تجنب المبالغة بالتوضيح، فذلك يشعر القارئ بأنه أقل معرفة من صاحب المقال. وكذلك تجنب التركيبات اللغوية الصعبة أو غير المألوفة، لأنها تربك القارئ وتقلل من انسيابية القراءة لديه. حيث أن القارئ يستحق الوقت المستهلك في إعادة التحرير، وكذلك يستحقه الكاتب نفسه، إذا عاد بعد سنواتٍ إلى مقالاته السابقة ورأى فيها ما يبهجه.
أخيراً: يمكن للكاتب أن يطور أساليب أفضل في كتابة مقالاته، وذلك من خلال إنشاء مدونة عبر أحد التطبيقات المختلفة. وهذا لا يمنحه تمرينًا على الكتابة فحسب، بل يدعمه ككاتب مستقل، ويعطيه القابلية لنشر كل ما يكتب. ومن خلال المدونة يمكن للكاتب أن يجري مقابلات مع محرري الصحف والخبراء، وكذلك يمكن للقراء معرفة المزيد من المعلومات عن الكاتب. ولذلك فهي تستحق استثمار الوقت والطاقة، لكتابة مقالات يمكن تطويرها وتحسينها لنشرها بعد ذلك في الصحف والمجلات.
** **
- جامعة القصيم