د.عبدالله بن موسى الطاير
أربع فئات أثخنت في سمعة المملكة؛ أولها؛ العثمانيون والقوى الاستعمارية، ومؤرخوهم والمستشرقون الذين استعدوا المسلمين على الدولة السعودية الأولى على اعتبار أنها جاءت بدين جديد اسمه الوهابية. وثانيها؛ القوميون العرب، ومن لف لفهم من بعثيين وشيوعيين وثوريين «تقدميين» وبعضهم حملوا الجنسية السعودية الذين اتهموا السعودية بالرجعية، والفئة الثالثة؛ الليبراليون السعوديون والعرب الذين لم يتفق مشروعهم مع المشروع المحافظ للدولة والمجتمع فاستغلوا الإعلام ومنديات الدول الغربية لاتهام السعوديين بالاستبداد، ورابع هذه الفئات بعض الإرهابيين الذين استغلوا مكانة المملكة الدينية وارتكبوا أعمالهم الشنيعة باسم الإسلام وبجوازات سعودية.
مع ذلك، وعلى الرغم من هذا الإرث الظالم الممتد على مدى نحو 300 عام، تثبت السعودية أنها دولة ضخمة، ومؤثرة، وحققت لشعبها نموًا وازدهارًا لم تحققه غيرها ممن هي أغنى منها في موارد تفتقر لها المملكة.
قدح الدكتور خالد الدخيل في لقائه اليوتيوبي فكرة هذه المقالة، وأعادني لأوراق قديمة كنت كتبتها عن العلاقات السعودية الأمريكية، وهي علاقة رابحة للطرفين، لأنها بنيت على ندية فرضتها شخصية الملك عبدالعزيز، في لقائه الوحيد برئيس أمريكي.
عدت إلى كتاب ويليام إدي المعنون «فرانكلين روزفلت يلتقي ابن سعود» الصادر عام 1954م، والكولونيل إدي كان مترجم ذلك اللقاء التاريخي. الملك السعودي يغادر جدة في مدمرة أمريكية، وبلاده فقيرة، جائعة، جاهلة، لكن نفسه الكبيرة وهمته العالية تأبى أن يكون لأحد فضل عليه، فسارع إلى منح كل ضابط صف على متن المدمرة الأمريكية 15 جنيهاً إسترلينياً، وكل بحار 10 جنيهات إسترلينية. ويعلق المؤلف «كان من الصعب وصف ردود أفعال البحارة تجاه هؤلاء الرحالة العرب الغريبين، المهذبين، والرائعين».
جلس الملك عبدالعزيز أمام روزفلت، ملك دولة مستقلة أمام رئيس دولة مستقلة، فلم يلمح (حسب المؤلف) «في أي وقت إلى مساعدة اقتصادية أو مالية، فقد سافر إلى الاجتماع بحثًا عن أصدقاء وليس أموالاً، على الرغم من حقيقة أنه عام 1945 كان يحكم أرضًا رعوية لا تستطيع إنتاج ما يكفي لإطعام سكانها، وقطعتها الحرب العالمية عن استيراد ضروريات الحياة». لم يمد المؤسس رغم الحاجة يده للأمريكيين حتى لا يملون مطالبهم عليه لاحقًا. تلك الإستراتيجية سرعان ما عادت بالفائدة عندما فتح روزفلت قضية اليهود.
قال روزفلت إنه يرغب في «إنقاذ وإعادة تأهيل من بقي حيًا من اليهود في أوروبا الوسطى الذين عانوا من أهوال لا توصف على أيدي النازيين: التهجير، وتدمير منازلهم، والتعذيب والقتل الجماعي» كان روزفلت يشعر بمسؤولية شخصية، وألزم نفسه بالعمل على مساعدتهم في حل هذه المشكلة، ورغب في نصيحة الملك الذي أجابه ببساطة واقتضاب: «امنحهم وأحفادهم أراضي وبيوت الألمان فهم الذين اضطهدوهم»، فرد عليه الرئيس بأن «الناجين اليهود لديهم رغبة عاطفية في الاستقرار في فلسطين، ومن المفهوم تمامًا أنهم سيخشون البقاء في ألمانيا حيث قد يعانون مرة أخرى». فأجابه الملك: «إنه ليس لديه شك في أن اليهود لديهم سبب وجيه لعدم الثقة بالألمان، لكن من المؤكد أن الحلفاء سوف يدمرون القوة النازية إلى الأبد، وفي انتصارهم سيكونون أقوياء بما يكفي لحماية ضحايا النازيين. إذا كان الحلفاء لا يتوقعون السيطرة بحزم على السياسة الألمانية المستقبلية، فلماذا خاضوا حربًا بتلك الكلفة؟ لم ييأس الرئيس الأمريكي فأعاد الكرة مناشدًا كرم الضيافة العربية وطامعًا في مساعدة الملك في حل مشكلة الصهاينة، لكن الملك كرر: «اجعلوا العدو الظالم يدفع الثمن، هذه هي الطريقة التي نشن بها نحن العرب الحرب. يجب أن يدفع المجرم الألماني التعويضات، وليس المتفرج الفلسطيني البريء. ما الأذى الذي سببه العرب ليهود أوروبا؟ وأضاف: «الألمان (المسيحيون) هم من سرقوا منازل اليهود وحياتهم، دعوا الألمان يدفعون». ورغم تذمر روزفلت من موقف الملك عبدالعزيز، فقد ختم الضيف كلامه في هذا الشأن بقوله: «من العادات العربية توزيع الناجين وضحايا المعركة بين القبائل المنتصرة حسب عددهم ومواردهم من الغذاء والماء، وتشارك نحو 50 دولة في معسكر الحلفاء، وفلسطين صغيرة، وفقيرة في الأرض، وقد تم تخصيص أكثر من حصتها للاجئين الأوروبيين».
حملات تشويه المملكة والتشكيك في مواقفها لم تغير من الواقع شيئًا، فهكذا كنا وما زلنا في تعاملنا مع أمريكا، فعندما زار الملك سلمان واشنطن بعد توليه الحكم، قال للرئيس أوباما «نحن في بلدنا الحمد لله لسنا بحاجة لشيء، وإنما نريد استقرارًا يخدم شعوب المنطقة»، وزيارة الرئيس بايدن الأخيرة أعادت رسم ملامح المشهد القديم، فالرئيس بايدن كما روزفلت ديموقراطيان، والأمير محمد بن سلمان حفيد الملك عبدالعزيز والأكثر شبهًا به، ولن تعلو يد فوق يد المملكة، مهما كانت الحاجة إلى دعم الأصدقاء.