د.عبدالله بن موسى الطاير
كنت صغيرًا أستمع كل جمعة إلى دعاء إمام قريتنا عبدالله باجبير -رحمه الله- بإلقائه المميز: «اللهم اقض الدَّين عن المدينين»، فكبرت وأنا أكره الدَّين، وكان وجهه الأقرب أن تقترض من أحد نقدًا، أو تأخذ «بيعة»، وفي بعض المناطق يسمونها جفرة، ومع تقدُّم العمر، بدأت تجربتي مع الدَّين بسيارة أقساط للزواج، ثم لازمني ملازمة ثقيلة ردحًا من الزمن، ولم أنعتق منه بالوصول إلى مرحلة المعادلة الصفرية سوى قبل بضع سنوات، بعد عمل شاق في وظائف متعددة، واغتراب مُنهك.
ومن تجار الجفرة إلى مقسطي السيارات إلى البنوك التي وصلت نسبة فوائدها في مرحلة ما إلى 11 % تحت مسميات المرابحة، من أجل تحليل الفوائد المبالغ فيها، كنت إذا رغبت في قرض من بنك ربوي دفعت فائدة أقل، وإذا أردت الاستبراء لدينك «سلختك» اللجان الشرعية بفوائد مضاعفة يتم تمريرها بتغيير شكلي وتلاعب في الكلمات والإجراءات، كما يعتقد كثير من الناس.
استشرت أحد الاقتصاديين الكبار وأنا بصدد التخلص من آخر قرض، فحذرني من استخدام النقد الموجود عندي لتسديده، وله فلسفة مالية منطقية تدعم رأيه، لكنني لم أستطع الصبر فقررت مخالفته وتسديد القرض مبكرًا؛ لأن في ذاكرتي الأقوال المأثورة التي شكلت شخصيتي مثل «الدَّين همّ بالليل وذل بالنهار»، مع أنه أصبح صفة ملازمة للحياة المدنية العصرية، وربما يتعايش معه الجيل الحالي دون أن يسامرهم همه بالليل أو يزعجهم ذله بالنهار، على اعتبار أنه حل اقتصادي عابر للقارات، لم يعد هناك مجال لتجنبه.
ولأن أمريكا تمثل الوجه الكالح للرأسمالية المتوحشة فإن إجمالي أرصدة الديون الاستهلاكية ارتفع بنسبة 5.4 % من 2020 إلى 2021 ليصل إلى 15.31 تريليون دولار. وتعتبر القروض العقارية وقروض شراء السيارات أكبر مكونَين في ميزانية المستهلك الأمريكي، وتمثل أسرع نمو سنوي مقارنة بأي فئة من فئات الديون الأخرى. وبحسب بعض المواقع المتخصصة فقد نما إجمالي رصيد القروض العقارية بنسبة 7.6 % في عام 2021، ونما إجمالي رصيد قروض السيارات والإيجارات بنسبة 8.9 % إلى 1.47 تريليون دولار. أحد أنواع القروض الذي لم يصلنا بعد هو قروض الطلبة حيث وصل مجموعها في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 1.6 تريليون دولار أمريكي، وهي التي يحصل عليها الطلبة لمواصلة تعليمهم الجامعي.
وإذا أخذنا نصيب المستهلك الأمريكي من هذه الديون التريليونية عام 2021م سنجد أن كل أمريكي مدين بما متوسطه 96.371 (ستة وتسعون ألفًا وثلاثمئة وواحد وسبعون دولارًا». وقد ارتفعت نسبة الديون من عام 2020 إلى عام 2021م عند الفئة العمرية ما بين 18-24 سنة بنسبة وصلت إلى 30 % تقريبًا، وعند الفئة العمرية 41- 56 بنسبة 4 %، بينما انخفضت عن الفئة العمرية 57-75 بنسبة 1.7 %.
وفي مقالة لـBrett Holzhauer على موقع CNBC بعنوان: أن تكون خاليًا من الديون تمامًا، وكيف يمكن أن يؤثر بشكل إيجابي على عقلك؟ يقول: «بالنسبة للكثيرين فإن العيش بدون ديون هو حلم قد يبدو للأسف بعيد المنال؛ سواء أكان الأمر يتعلق بديون طويلة الأمد، مثل القروض العقارية منخفضة الفائدة، أو قروض طلابية، أو ديون استهلاكية عالية الفائدة كبطاقة الائتمان، فقد اعتاد العديد من الأمريكيين على العيش في المنطقة الحمراء». وينقل الكاتب: «الأفراد المعافون تمامًا من الديون لديهم عقلية مختلفة تمامًا.. هناك إحساس أكبر بالسلام والحرية والفرصة التي تأتي مع عدم وجود ديون... وتتوفر للأفراد الخالين من الديون المزيد من الخيارات والتحكم في كل دولار يمتلكونه، فعندما لا يكون لديك دين يمكنك بحرية تامة أن تقرر كيف ومتى تنفق أموالك».
تسهيل القروض أحيانًا، وتسويقها بشكل مشوق من جانب، وتحولها إلى ضرورة في الحياة المعاصرة، أصبح ظاهرة مرتبطة بالمدنية والمعاصرة، وهو نوع من أنواع استعباد البشر والتحكم في قراراتهم المالية. لقد حوّل اقتصاد السوق كل مظاهر الحياة بما فيها الشرف والكرامة إلى سلع قابلة للبيع، وأصبح المال يشتري كل شيء مع اختلافات طفيفة من مجتمع إلى آخر. وفي ظل سطوة المال يصبح الدين مبررًا، لكنه في الوقت ذاته يبقى همًّا بالليل، وعبئًا بالنهار، على اعتبار أن الدائن لم يعد فردًا في المجتمع القريب يُذل بنظراته ومطالباته للمدين كلما رآه.