د.عبدالله بن موسى الطاير
هل يعاني المسلمون من عقد ذنب مزمنة؟ ولماذا كلما زاد تدين بعض المسلمين ازدادوا تجهماً؟ هناك من يحمل النفس اللوامة تبعات العلل النفسية والذهنية لعقدة الذنب المتورمة بسبب معاقرة الذنوب والمعاصي، وهناك من يرى أن ما يتجاوز حدود الندم الطبيعي على مخالفة الأوامر الربانية أو القوانين الأخلاقية التي تنظم تعاملات الناس يعود مباشرة لاضطراب نفسي لا علاقة للدين والتدين به. من جانبها، تقرر المصادر العلمية أن الشعور المفرط وغير الملائم بالذنب مرتبط بعدد من حالات الصحة العقلية بما في ذلك الاكتئاب، واضطراب الوسواس القهري، واضطراب ما بعد الصدمة.
بعض الممارسات والخطابات الوعظية الدينية تسرف في سد السبل المفضية إلى رحمة الله التي وسعت كل شيء، فتنقل الحالة النفسية من مستوى اللوم الإيجابي الذي أقسم به رب العالمين، إلى مستوى متقدم من اليأس والقنوط من رحمة الله. يكثر هؤلاء جلادو الذات من ترديد أحاديث دون الأخذ في الاعتبار حكمة المشرع، كحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا»، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بإبلاغ ما يعلم، فلماذا نضع البكاء قاعدةً والضحك استثناءً؟ ونصور المؤمن الحق بالمتجهم أبدا.
يشعر المسلم بالذنب بسبب تقصيره في العبادات والمعاملات، وهذا نوع من يقظة الضمير، فيستثمر هذه المشاعر الإيجابية قوم يصادرون حق الناس في الصحة العقلية والنفسية، على الرغم من النصوص التي تقدم الدين يسيرا سهلا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (سورة آل عمران: 135)، والحديث الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: «أَذنَب عبْدٌ ذَنْبًا فقالَ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِم أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ ربِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ اغفِرْ لِي ذَنبي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: أَذْنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، قد غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ»، المتشددون يغفلون كل هذا (وبعضهم بحسن نية أو جهل)، وإذا قيل لأحدهم إن الله غفور رحيم، يرد عليك إن الله شديد العقاب.
إذا حاولت التصالح مع نفسك وأقنعتها أنك اجتهدت في العبادة حسب استطاعتك، أتاك من يقزم طاعتك مستشهداً بالصحابة والتابعين الذين يقومون الليل حتى تتفطر أقدامهم، ويبللون الأرض بدموعهم، فتحتقر عبادتك، وتعاظم الشعور بالذنب في نفسك؛ فإذا كان هذا رسول الله، وصحابته يفعلون ذلك، فكيف لي أن أدخل الجنة وأنا المقصر؟ وهكذا تعتمل في نفوسنا عقد الذنب وتتحول من لوم على تقصير إلى شعور بالرهبة والخزي وسوء الظن بالله.
قابلت بعض الإرهابيين الموقوفين قبل بضع سنوات، فوجدت أن من أسباب اعتناق بعضهم الإرهاب وقتلهم النفوس التي حرم الله قتلها، هو شعورهم بعقدة الذنب بسبب تقصيرهم في الدين، ليصطادهم من يقنعهم أن سبل الرحمة قد سدت في وجوههم خلا «الشهادة» وبذلك فخخت عقولهم وأوردهم قادتهم جهنم من أوسع أبوابها بتزيين قتل الأبرياء كأسرع طريق إلى الجنة.
الإسلام العظيم لا يمكن أن يكون من مقاصده تحويل أتباعه إلى مرضى نفسيين، ولا حتى بعضهم، ولذلك نصت الآيات بوضوح على سعة رحمة الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (سورة الزمر: 53). وعلى الرغم من صراحة النصوص الدينية في هذا المنحى، إلا أن هناك من يعمل جاهدا عبر تاريخ الدعوة على تيئيس الناس من رحمة ربهم، وتحويلهم إلى كائنات تنهشهم عقد الذنب من الداخل، فلا يستقرون نفسيا ولا يبدعون في الحياة الدنيا ولا يضيفون للمنجز الإنساني على الرغم من إيمانهم أنهم مستخلفون لعمارة الأرض.
هناك من يقرأ هذه المقالة وهو يستدعي كل نصوص الوعيد ليثبت عكس ما ذهبت إليه في رأيي، وحتى أخفف عليه، فإنني على علم بالثواب والعقاب، والخير والشر، والبشير والنذير، والجنة والنار، وغيرها من النواميس، إلا أن الإيغال في زرع عقد الذنب في نفوس المسلمين وبخاصة الأطفال تحتم على محركات الوعي، ومؤسسات التربية أن تشيع في الناس الأمل، وأن تساعدهم على التصالح مع خالقهم بدلاً من تخويفهم منه، وأن تعيد صياغة العلاقة بالدين على أنها تهذيب للنفس واستكمال لمنظومة قيم الخير والحق، وأن الدين جاء للعمارة وليس للعدم، وبذلك يتحرر الخلق من الشعور المقيت بالذنب، والتمييز بين هذه الحالة المرضية ولوم النفس بالقدر الذي لا يفقد المسلم حسن الظن بالله.