د.عبدالله بن موسى الطاير
هل من العدل أن نتقاسم الهموم مع الخالين منها؟ يبدو أن العرب مولعون بالهموم، ولذلك تفيض من نفوسهم لتصيب بالعدوى السعداء، يقول أبو فراس الحمداني مخاطبًا حمامة طليقة تقف قريبًا من محبسه:
أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا
تَعالِي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالِي
ولا أظن أبا فراس يقصد مقاسمة الاهتمام معها، وإنما قصده مقاسمة الغم الذي يعانيه في سجنه مع تلك الحمامة الطليقة التي تصور من هول غمه أنها تبكي مهمومة أيضًا عند رأسه، وقد كانت تغني ربما. وفي معاجم اللغة يفرقون بين الهم الذي هو الفكر في «إزالة المكروه واجتلاب المحبوب»، والغم، «ألا ترى أنك تقول لصاحبك اهتم في حاجتي ولا يصح أن تقول اغتم بها. والغم معنى ينقبض القلب معه ويكون لوقوع ضرر قد كان أو توقع ضرر يكون أو يتوهمه، وقد سمي الحزن الذي تطول مدته حتى يذيب البدن همًا، واشتقاقه من قولك «انهم الشحم إذا ذاب، وهمه إذا أذابه».
وتلازم الهموم مع الليل ضارب بجذوره في حضارتنا، ربما لأن الليل ساتر، وللهموم آهات ودموع تتنازع المهموم فيكون الليل ساترًا للضعف، يقول المتنبي واصفًا توحش الهموم وانثيالها عليه ليلاً:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
لا أحد منا إلا ويحزن ويهتم ويغتم، ولكن لكل مشاعر تنتابنا مقادير إن زادت عليها تحولت إلى متلازمة تفسد الحياة. والمهموم إنسان يستغرق في تصور الأسوأ، الذي قد لا يحدث أبدًا، فينشغل به، ويشغل من حوله، ويبلي نفسه، ويصادر حقه في الحياة لأنه مهموم بشيء متخيل أو خارج نطاق سيطرته، ومعظم الهم هو من المستقبل ومن المجهول الذي لا تحكم لنا فيه.
أعجبني تصور ديباك شوبرا للهم، والنظر إليه على أنه الجهل في مقابل التنوير، فالمهموم رجعي جاهل متخلف؛ مع تحفظي على تعميم هذه النعوت. يقول ديباك: «لا يوجد سوى عرَضَين من أعراض التنوير، ومؤشران فقط على حدوث تحول في داخلك نحو وعي أعلى: العَرَض الأول هو أنك تتوقف عن القلق، فالأمور لا تزعجك بعد الآن، وتصبح خفيف القلب وممتلئًا بالبهجة. والعَرَض الثاني هو أنك تواجه المزيد والمزيد من المصادفات ذات المعنى في حياتك، والمزيد والمزيد من التزامن. وهذا يتسارع إلى النقطة التي تختبر فيها المعجزات بالفعل». ربما يكون كلام ديباك هذا عند البعض من المحفزات، أو من السفسطات، أو من المثالية، ولكن في واقع الأمر هناك أناس ينعمون بالتنوير ولا ينتابهم القلق من الغد أو مما لا يملكون التحكم فيه. أحيانًا ننعت نحن معاشر المهمومين هؤلاء «المستنيرين» بالبرود والتبلد وعدم الإحساس بالمسؤولية، ولكنهم في واقع الأمر أسعد من الشخصيات التي تتقلب في الهموم ولم تحقق بقلقها وهمها شيئًا؛ فكل ما سيحدث سيحدث، سواء أكنا قلقين أم لا، بحسب آنا مونار.
ويقدم روي تي بينيت في كتابه: النور في القلب، وصفة للمهمومين: «من الصعب أن تعيش وتستمتع باللحظة التي تفكر فيها في الماضي أو تقلق بشأن المستقبل. لا يمكنك تغيير ماضيك، لكن يمكنك تدمير الحاضر من خلال القلق بشأن مستقبلك. تعلم من الماضي، خطط للمستقبل. كلما عشت واستمتعت باللحظة الحالية ستكون أكثر سعادة». ويبدو أن السعداء هم الذين لا يضيعون الوقت في القلق بشأن المشاكل التي لا حل لها، وإذا كان هناك حل للمشكلة فإنهم لا يضيعون الوقت في القلق بشأن الحلول، كما قال دالاي لاما الرابع عشر.
شخصيًا أتوقف كثيرًا عند مقولة مارك توين: «أنا رجل عجوز وقد عرفت الكثير من المشاكل، لكن معظمها لم يحدث أبدًا»، فكم من ليال وأيام قلقت فيها بشأن أمور توقعت حدوثها، وأغبط الذين كانوا يسخرون مني حينها، فقد كانوا على حق، واشتروا أدمغتم بعيدًا عن الاهتمام لشأن أمر لم يحدث.
ويُحكى أنه كان في زمن هارون الرشيد قد حصل للناس غلاء، وضيق حال، حتى اشتد الكرب على الناس اشتدادًا عظيمًا، ولازمتهم الهموم، فأمر الخليفة الناس بكثرة الدعاء والبكاء، وأمر بكسر آلات الطرب. وبينما الحال تلك رُئي عبد يصفق ويرقص ويغني، فحُمل إلى الرشيد، فسأله عن فعله ذلك من دون الناس، فقال: إن سيدي عنده خزانة بُر، وأنا متوكل عليه أن يطعمني منها، فلهذا أنا إذًا لا أبالي فأنا أرقص وأفرح، فعند ذلك قال الخليفة: إذا كان هذا قد توكل على مخلوق مثله فالتوكل على الله أولى. فسلم للناس أحوالهم، وأمرهم بالتوكل على الله تعالى.