علق أحد الزملاء عن ميلة عقال أحد أبنائنا بأن ميلة العقال شهرتها لشَمَّر، لفت انتباهي هذا التعليق وأشعل فضولي ودار في ذهني عدة أسئلة منها: لماذا دائماً تُنسب ميلة العقال إلى شمر، على الرغم من أنها عادة أيضًا عند بعض القبائل، وما سبب ميلة العقال تلك؟ وما سبب توارثها في الأجيال الحالية؟ وقد سرت عاصفة من التساؤلات، عززتها تيارات من الحماس بغية الكشف عن الزوايا الغامضة، وكعادتي كثفت القراءة إلا أن النتيجة جاءت بما يزيد من اشتعالها ودعمها.
قبل مئات السنين لبس الرجال العقال الذي بات جزءًا من اللباس السعودي الذي تطور عبر الزمن، و»العقال» ملبوس عربي أصيل متطور بأشكاله وألوانه، وليس صحيحًا ما يشاع من كونه ابتكارًا عسكريًّا جلبه المستعمِر. ولفظ العقال مأخوذ من عقال الجمل لتقييد حركته بما يتناسب مع سبب عقله ويعني عقل الجمل ضمُّ رُسْغِ يده إلى عَضُدِه وربطهما معًا، ومن هنا جاء العقال إذ إنه عندما كان البدوي يفك عقال جمله يضعه على رأسه فوق منديله أو عمامته ليسهل عليه إعادة العقال على الجمل متى أراد ذلك، حيث كان شائعًا أن يربط شريطًا غير محدد اللون لتثبيت العمامة أو المنديل الذي يقي الرأس حر الصيف وبرد الشتاء، والعقال أيضًا يقيد حركة البدوي العفوية ويبقيه متيقظًا، فتطور الأمر مع الزمن وصار تقليدًا عند عامة آسيا العربية.
وقد أظهرت الآثار المكتشفة في عدة حضارات ارتداء ما يشبه العقال كحضارة بابل، وحضارة عيلام في منطقة الأحواز، والعقال كان متعدد الألوان فمنه البني ومنه الأبيض ومنه الأسود، وبدرجات تحددها طبيعة لون الصوف أو شعر الماعز أو وبر الجمل، وأحب أن أنوه هنا إلى أنه ليس هناك علاقة بين لبس العقال الأسود وضياع الأندلس كما يدعي البعض، فلبس العقال الأسود تطور وانتشر تقريبًا منذ 250 سنة، بينما ضاعت الأندلس منذ أكثر من 700 سنة، مع أن القصة التي وردت في صدد ذلك جميلة؛ وذلك أنه لُبس حزنًا على الأندلس عندما أمر الخليفة العباسي كل رجل بأن يضع شريطًا أسودَ على رأسه؛ حزنًا على الأندلس.
وعُرف سكان الجزيرة بوضع العقال منذ القدم وهو من ملابس التراث ولا يزال موجودًا في بعض المناطق كالسعودية وعمان والإمارات والكويت إذ له دلالات ومعانٍ كثيرة عند رجال العرب، فهو ليس جزءًا من الزي التراثي فقط بل رمز للرجولة والأصالة ولشموخ الرجل وعزته وكرامته.
وللطريقة التي يوضع بها العقال عادات وعلامات تُعَبِّر عن حالة لابسها المزاجية؛ فإذا مات للشخص قريب عزيز عليه فإنه ينزل العقال، وإذا سافر يرجعه إلى الوراء، وقديما كان الرجل يلقي عقاله في مجلس عام حينما يجرح كبرياؤه، ولا يعود للبسه حتى يسترد كرامته، قال في ذلك سليمان فيضي في مذكراته ناقلًا عن لسان الملك عبدالعزيز «وقد أقسم الملك عبدالعزيز أن لا يلبس العقال المقصب حتى يثأر من خصمة، وبقي يرتدي العقال الأسود حتى اليوم الذي حملوا إليه ختم خصمة بعد مقتله حينئذ نادى: ائتوني بعقال مقصب، فلما أحضروه وضعه على رأسه بين الهتاف والأهازيج».
والعقال المقصب الذي ذاع صيته بعد أن لبسه الملك عبدالعزيز، لبسه الملوك: سعود، وفيصل، ويعد الملك فيصل آخر من لبسه منهم وهو ملك، ولبسه كذلك الملك فهد والملك عبدالله قبل توليهما الحكم، وكذلك الأمير سلطان رحمهم الله وغيرهم من الأمراء.
أما شهرة إمالة العقال في اللبس فهي لأهل الشمال وأغلب من يميلون العقال من أهل الشمال قبائل شمر، عنزة، الشرارات، وكل قبيلة تلبسه بطريقة مختلفة ويقال: إنها علامة لتميز فرسان قبيلة عن الأخرى ولذلك اشتهرت عند عنزة ميلة العقال إلى جهة اليمين، وشَمَّر إلى جهة اليسار أو العكس كما يرى البعض؛ لأنه لا يوجد مصدر يثبت إلى أي اتجاه لبس العقال لكل قبيلة.
وأعتقد أن سبب شهرتها في قبيلة شمر لأن كل أبناء القبيلة تلبسها بتلك الطريقة المائلة؛ بينما يستخدمها من عنزة -غالبًا- قبيلة الرولة فقط. ولم أتوصل إلى معرفة أول من لبس العقال بهذه الطريقة المائلة، وما سبب ذلك.
وبالبحث في هذا الموضوع وجدت صورًا للشيخ فيصل بن سلطان الدويش من قبيلة مطير، والشيخ نايف بن محمد بن حثلين من قبيلة العجمان، ويتضح فيها ميلة العقال مما يدل على أن ميلة العقال لا تقتصر على قبيلة دون أخرى.
وقد قيلت أبيات شعر عديدة توضح عادة ميلة العقال وشهرة لبسها بالطريقة المائلة لقبيلة عنزة، منها قصيدة ياسر التويجري:
ميلة عقال ويعتدل كل مايل
ومن طاري الدحة كسرنا المعادين
حنا قبيلة عز والشك زايل
كل قوم ولا قوم عنزة بالميادين
وهناك بيت متداول لخلف بن مشعان يقول فيه:
مال الزمن يا حصة
وما مال غير عقالي
وفي الواقع أن ميل العقال أخذ تأويلًا وتفسيرًا، وتجاذبته الكثير من القصص التي هي من وحي الخيال، ونسبته إلى قبيلة ما؛ لأن شاعرا ما قد امتدح ميل عقل فرسان قبيلته.. إلى آخر ذلك من القصص، وفي حقيقة الأمر أنه عندما كان الفرسان يركبون خيولهم وإبلهم ويكرون ويفرون في المعارك كان يميل العقال غالبا بغير قصد من الفارس، وإنما هي عملية بسيطة حيث إن الخيل أو الإبل أكثر ما تميل إلى جهة اليمين، وما دعا إلى التفاخر بهذه الظاهرة أنها كانت بمثابة شهادة للفارس بفروسيته وبشدة بأسه، ومن هنا أصبحت إمالة العقال إلى جهة اليمين لكل معتز ومفتخر بشجاعته وبأصله النبيل، وهي عادة ليست حصرًا على قبيلة ما، فهي ظاهرة شريفة لكل فارس من أي قبيلة كان، وهي اليوم دلالة على أن من أمال عقاله إما أنه فارس، أو أجداده فرسان، وإمالة العقال لازالت في الأجيال الحالية، وفي اعتقادي أنها تلبس حاليًا للتعبير عن الطناخة والرجولة والفروسية.
** **
مشاعل بنت عيد الرويلي - طالبة دكتوراه/ قسم التاريخ/ جامعة الملك سعود