أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
- 1 -
إنَّ ما حدثَ في التاريخ الاجتماعي، بعد الإسلام، كان خلافَ المتوقَّع في شأن المرأة. وما عليك لتُدرِك ذلك سِوَى أن تستقرئ المواقف من المرأة لدَى معدودِين من كِبار الشُّعراء، أمثال (الفرزدق)، و(أبي تمَّام)، و(البحتري)، و(أبي العلاء المعرِّي).(1) ولذا تكاد لا تقف على بكاءٍ على وفاة أُنثى في الشِّعر العَرَبي القديم، إلَّا قليلًا. حتى إنَّ النِّساء إنَّما كنَّ يبكين على أبنائهنَّ، أو آبائهنَّ، أو إخوانهنَّ، لا على بناتهنَّ.(2) وأمَّا رثاء الجواري في الإسلام، فوافر، وذلك لأسباب معروفة، اقتصادية وتجارية، من حيث كانت الجارية سلعةً ثمينة، كالناقة والفرس.
ومن شواهد هذا، الدالَّة على عمق تلك النزعة العنصريَّة، ما رُوِيَ من أنَّها: «تُوُفِّيَت أخْتٌ لعُمَر بن عبد العزيز، فلمَّا فرغَ من دَفْنها، دَنا إليه رجلٌ فعزَّاه، فلم يَرُدَّ عليه شيئًا، ثمَّ دنا إليه آخَرُ فعزَّاه، فلم يرُدَّ عليه شيئًا، فلمَّا رأى الناسُ ذلك أمسَكوا عنه ومَشَوْا معه. فلمَّا بلغ البابَ، أقبل على الناس بوجهه، وقال: أدركتُ الناس وهم لا يُعَزَّون بامرأة، إلَّا أن تكون أُمًّا، انقلبوا رحمكم الله!»(3) وإذا كان شأن (عُمَر بن عبد العزيز)- «الأمير العادل»- بهذه الصورة العنصريَّة في شأن النِّساء، واتِّباع سنن الجاهليَّة، حتى في مصيبة الموت- مُعرِضًا عن المُعَزِّين في أُخته استنكافًا، آمِرًا إيَّاهم أن ينقلعوا عن وجهه، فينقلبوا ولا يُعَزُّوه- فكيف بغيره من عامَّة المجتمع؟! ولا يعنينا هنا أن تكون هذه الرواية صحيحة أو غير صحيحة، بل ما يعنينا أن هذا الخبر دالٌّ على ثقافةٍ سائدة، كانت غير مستنكرة، بل تدبَّج بها صحائف الكتب، تنويهًا وتأسِّيًا.
- 2 -
ويأتي تَعرِّي (البحتريِّ، -284هـ)، عنصريًّا، من خلال تعزيته (محمَّد بن حُمَيْد الطُّوسي) في وفاة ابنته؛ إذ أوصاه، في صفاقةٍ لا يُحسَد عليه، بالفرح لموتها، واتِّباع سُنَّة الجاهليَّة في وَأْدِ البنات- مُحتجًّا بسيرة إمامه «الأكبر» (قيس بن عاصم المنقري) في وأدهنَّ- ليشهد على هذا الموقف الصارخ من المرأة! وهو ما لم يفعله الجاهليُّون أنفسهم، من تمجيد الوَأْدِ، والدَّعوة إليه.(4) فالبحتري(5) لم يمنعه موقف العزاء في ابنة (الطُّوسي) من أن يستنكر عليه الحُزن على بنته، فأخذ يعزِّيه بأن «موت البنات لا يستحقُّ البكاء»، والبكاء عليهنَّ ليس من شيم الفِتْيان، مستشهدًا بأسلافه من الجاهليِّين، وعلى رأسهم (المنقري)، الذي بلغ من بشاعة إجرامه أنه كان يئِدُ كلَّ بنتٍ تولد له، رغم ضرب العرب المثل به في الحِلْم، وهو القائل، وقد سئل ما الحلم؟:
- «أن تَصِل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك!» (6)
غير أنه حِلْمٌ جاهليٌّ، وحِكَمٌ ذكوريَّةٌ وثنيَّة، لا تشمل النساء- بطبيعة الحال الجُنوسيَّة، أو «الجندريَّة Gender Identity»- إلَّا كما يمكن أن يشمل نعيمُ الفردوس الشيطانَ الرجيم، لدى أصحاب الدِّيانات!
بل يذهب البحتريُّ إلى أبعد من هذا ضلالًا، كيف لا وهو الأديب المثقف؟! فيستشهد تارة بـ«القرآن»، مضمِّنًا الآية: ?الـمَالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا?، (سورة الكهف: 46)- ولم تقل الآية «والبنات»، حسب الفطنة الفقهيَّه البحتريَّة- وتارة أخرى يُشرِك الأنبياء في فكرته الجاهليَّة، وثالثة يستشهد بالأُسطورة الإسرائيليَّة (سِفر التكوين: الإصحاح الثالث)، حول الخطيئة وإخراج (حواء) (آدمَ) من الجنَّة، فيقول- لا فُضَّ فوه!-:
أَتُبَكِّـي من لا يُنـازلُ بالسَّـيْفِ
مُشِيْحًا ولا يَهُزُّ اللواءَ؟!
والفَـتَى من رأى القُبورَ لِما
اللواءَ؟! فَ بهِ من بنـاتـه أكفاءَ
طـا لَسْـنَ من زينةِ الحياةِ
بنـاتـه أكـفـاءَ ـلّهِ
كعـَـدِّ الـ قد وَلَـدْن الأعداءَ
منها الأمـوالَ والأبـناءَ
قِدْمًا، ووَرَّثْـ لم يَئِـدْ
ـنَ التِّـلادَ الأقاصيَ البُعَداءَ
كُـثْرَهُنَّ (قَـيْسُ تَميمٍ) وتَغَـشَّى
عـَيْـلـةً بل حميَّـةً وإبـاءَ
(مُهَلْهِـلَ) الذُّلُّ فيهـ و(شـقيقُ
ـنَّ، وقد أُعْطِيَ الأَديمَ حِـباءَ
بنُ فـاتكٍ) حَذَرَ العـا وعلى
رِ عليهِـنَّ فـارقَ الدَّهـناءَ
غَيرهـنَّ أُحْـزِنَ (يعـقو
بُ) وقـد جـاءَهُ بَنُوهُ عِشاءَ
و(شُعَيْبٌ) من أجلهنَّ رأى
ـدَةَ ضعفـًا فاستأجرَ الأنبياءَ
الوَحْـ واستزلَّ الشيطانُ آدمَ
ـةِ لمـَّا أَغـْرَى بهِ حَـوَّاءَ
في الجَنَّـ وتَلَـفَّتْ إلى القبائـلِ،
أمَّـهـاتٍ يُنْسَـبْنَ أَمْ آبـاءَ
فانظـرْ ولَعـمْري ما العَجْزُ عنديَ إلاَّ
أنْ تَبيتَ الرِّجالُ تبكي النِّسـاءَ
والبحتري كالمعرِّي- الذي سُقنا جاهليَّةَ تفلسفه حول المرأة في المساق السابق- كانا يتبعان سُنَّة من سبقوهما من الشعراء، ومنهم جدُّهم الثقافي (الفرزدق، -110هـ)(7)، الذي كان بدَوره يتبع سنة (قيس بن عاصم المنقري)، ويفاخر بأنه على مِلَّته؛ إذ عَبَّر عن استنكافه من أن يبكي امرأتَه المتوفاة، أو أن يُشاع عنه مثل ذلك العار، نافيًا بعُنفٍ ما عيَّره به (جرير) من هذه الشائعة الكيديَّة الفاضحة، مع أنه- للمفارقة- كان يفاخر بامرأته جريرًا! لكنَّ لكلِّ مقام مقالًا، والنار ولا العار!
السؤال: كيف يتأتَّى للإنسان- ذي العقل والقِيَم الاجتماعيَّة- أن ينحطَّ أحيانًا عن أكثر مخلوقات الله انحطاطًا، بمن فيها (إبليس)، الذي يُعلِّق عليه كلَّ آثامه، وهو أجدر بأن يغدو أستاذه لا تلميذه؟!
هذا ما سنحاول مناقشته في المساق الآتي، متوقِّفين مع مؤسِّسٍ آخَر لهذا الخطاب، وهو (جرير)، في موقفه الملتزم بازدراء المرأة؛ لأنه يمنعه (الحياء)- كما قال- من أن يكون إنسانًا، فيَشذَّ عن الجماعة! (8)
- - - - - - - - - - - - - -
(1) انظر: الفَيْفي، عبدالله بن أحمد، (2006)، نَقْدُ القِيَم: مقارباتٌ تخطيطيَّـةٌ لمنهاجٍ عِلْمِيٍّ جديد، (بيروت: مؤسَّسة الانتشار العَرَبي)، 93- 96.
(2) انظر مثلًا: «كتاب الدُّرَّة في النوادب والتعازي والمراثي»: ابن عبد ربِّه، (1983)، كتاب العِقد الفريد، تحقيق: أحمد أمين؛ أحمد الزين؛ إبراهيم الإبياري، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 3: 228- 000.
(3) م.ن، 3: 310.
(4) انظر: الفَيْفي، م.ن.
(5) البحتري، (1977)، ديوان البحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 40- 41.
(6) ابن عبد ربِّه، 2: 278.
(7) الفرزدق، (1987)، ديوان الفرزدق، شرح: علي فاعور، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 364.
(8) هذا المقال جزء ثانٍ من ورقة بحثٍ حواريَّةٍ قُدِّمت في (الصالون الثقافي بنادي جُدَّة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي). للمشاهدة على موقع «اليوتيوب»: https://youtu.be/oIxP87fdTqA