حظي الاكتشاف الأثري الذي أعلن عنه الدكتور جاسر بن سليمان الحربش الرئيس التنفيذي لهيئة التراث الأسبوع الماضي عن العثور على آثار أقدام لبشر حول بحيرة قديمة على أطراف منطقة تبوك يعود تاريخها إلى أكثر من 120 ألف سنة، بأصداء إعلامية محلية ودولية واسعة نظراً لأهميته في تغيير مجرى نظريات علمية قائمة في موضوع بدايات الهجرات البشرية.
حيث إن هذا الاكتشاف الأثري الجديد والهام الذي يعد أحد نتائج المشروع العلمي (الجزيرة العربية الخضراء) يمثل الدليل العلمي الأول على أقدم وجود للإنسان على أرض الجزيرة العربية، وعلى أن الهجرات البشرية حين انتقلت من أفريقيا إلى الشام وآسيا، مرت على الجزيرة العربية واستوطنت فيها، وهذا ما لم يكن موجوداً في النظريات التاريخية السابقة.
وقد أبان الدكتور الحربش أنه وفقاً لنتائج المسح الأثري فقد ساهم وجود مئات البرك الطبيعية في النفود في بقاء وتكاثر الكائنات الحية بأنواعها المختلفة؛ حيث تم التعرف على طبعات أقدام سبعة أشخاص من البشر، ووجدت آثار طبعات للجمال (107 طبعات أثر وهي الأكثر على مستوى الموقع) والفيلة (43 طبعة أثر) وآثار طبعات أخرى لحيوانات من فصيلة الوعول وفصيلة البقريات، والتي كانت تتنقل في مجموعات فيها الكبير والصغير، إضافة إلى حوالي 233 أحفورة، تُمثل بقايا عظمية للفيلة والمها.
وبعد الإعلان عن الاكتشاف نشرت مجلة «سيانس أدفانسز» العلمية المحكمة دراسة مفصلة عن هذا الاكتشاف العلمي استندت على معلومات دقيقة للبيئات القديمة على ضوء طبعات أثر أقدام متحجرة لإنسان وحيوانات يعود تاريخها إلى 120.000 سنة عثر عليها في بحيرة جافة بشمالي المملكة العربية السعودية وتعد هذه النتائج أقدم الأدلة على وجود علاقة وثيقة بين تنقلات الإنسان والحيوان واستغلاله المنطقة.
وأكدت الدراسة أن لمعرفة عمر طبعات الأقدام اهتمام خاصة أنها تعود إلى فترة تعرف بالعصر الجليدي الأخير الذي تميز بأجواء ماطرة نسبياً في أرجاء المنطقة وهي لحظة تاريخية مهمة من قبل تاريخ البشرية استطاع الإنسان والحيوانات آنذاك من الانتقال والانتشار من خلال مناطق صحراوية أخرى كانت تعيقه إبان شح الأمطار والجدب. وتشير تواريخ الأحافير والآثار إلى أن هذه الظروف المناسبة سهلت أيضاً عليه الانتقال من أفريقيا إلى الشام.
وقد أكد الدكتور عبدالله الشارخ أستاذ الآثار في جامعة الملك سعود ورئيس الجانب السعودي في مشروع الجزيرة العربية الخضراء أن الاهتمام الشعبي بهذا الاكتشاف يعد مؤشراً على الوعي والانتماء الوطني.
وقال في تغريدات له على حسابه بتويتر إن التعرف على طبعات موقع الأثر يُعد اكتشافاً هاماً، خاصة وأن مثل هذه الدلالات الأثرية لا تتحمل، غالباً، أثر المتغيرات المناخية. وهو بفضل الله، إنجاز ساهم الكثيرون في تحقيقه.
وأشار إلى أن الدراسة البحثية المنشورة عن موقع الأثر وطبعات الأقدام البشرية والحيوانية التي يحتويها هي نتاج جهد سنوات من البحث الميداني والدراسات المكتبية والمعملية المتخصصة. لقد ساهم الدعم الرسمي في إيجاد بيئة خصبة لنجاح البحث الأثري.
وأضاف: «أطلق على هذا الموقع اسم موقع «الأثر»، وذلك لاحتوائه على آثار طبعات أقدام بشرية وحيوانية عمرها 120 ألف سنة، وهي الأقدم في الجزيرة العربية، والعثور على دلالات مؤكدة لوجود الفيل في موقع «الأثر» قبل 120 ألف سنة، يُعد أحدث دلالة على وجود الفيل في المنطقة، وكذلك مؤشراً واضحاً لكثافة الغطاء النباتي. لقد تم تأريخ موقع الأثر باستخدام طرق علمية دقيقة، ولم يتم العثور على أي أدوات حجرية فيه.
وتابع د. الشارخ: «أهمية موقع «الأثر» لا تقف عند المؤشرات الحضارية والبيئية التي يمكننا استنباطها، بل يتجاوز ذلك إلى إمكانية وجود عشرات المواقع التي لم تُكتشف. لقد ساهم البحث الميداني الدقيق من قبل فريق وبدعم من وزارة الثقافة وهيئة التراث وجامعة الملك سعود في هذا الاكتشاف الأثري الهام».
وأظهرت الدراسات احتواء الموقع على سبع طبقات أثرية، عثر فيها على أدوات حجرية آشولية مصنوعة من أحجار الاندسايت والرايوليت، وأدوات حجرية موجودة في مكانها الأصلي، ولم تتأثر بعوامل التعرية الطبيعية، وتميز الموقع بوجود صناعة حجرية متقدمة، اشتملت على الفؤوس الحجرية والشظايا الكبيرة، كما هو معروف في قارة أفريقيا، وفي ظل ظروف مناخية معتدلة.
وأشار الدكتور الحربش أن هذا الاكتشاف هو أحد نتائج المشروع العلمي الكبير (مشروع الجزيرة العربية الخضراء) الذي تشرف عليه الهيئة، وتتعاون فيه مع معهد ماكس بلانك الألماني وجامعة أكسفورد البريطانية وجامعة كوينزلاند الأسترالية، وجامعة الملك سعود وهيئة المساحة الجيولوجية وشركة أرامكو، ويعمل فريق أبحاث سعودي دولي منذ أكثر من 10 سنوات على أبحاث ميدانية متعددة التخصصات، وقد أطلق على المشروع «الجزيرة العربية الخضراء» الذي شمل مناطق صحراوية مختلفة، وحول مناطق الحرات البركانية، وبالقرب من بعض السواحل في منطقة تبوك، ونجران، والرياض، وحائل، والمدينة المنورة. وضمّ الفريق عددًا من التخصصات المصاحبة لعلم الآثار.
وأثبتت نتائج المشروع العلمي المشترك أن هناك تغييرات كبيرة في البيئات؛ تتراوح ما بين القاحلة للغاية والرطبة. والأدلة الحالية تدعم بقوة تأكيدات وجود «الجزيرة العربية الخضراء» مرات عديدة في الماضي؛ حيث إن هناك سجلات بيئية ومواقع أثرية تعود إلى 500.000 سنة قبل الوقت الحاضر على الأقل، وخلال المراحل الرطبة كان هناك أنهار وبحيرات في جميع أنحاء الجزيرة العربية، الأمر الذي أدى إلى انتشارات وتوسعات سكانية، وهذا يؤكد أن الجزيرة العربية كانت مفترق طرق رئيس بين أفريقيا وبقية أوراسيا طوال عصور ما قبل التاريخ.
وقد تمكّن «مشروع الجزيرة العربية الخضراء» من خلال المسوحات المُكثفة والتنقيبات المنظمة من فهم الظروف المناخية القديمة وطبيعة البيئة السائدة في الجزيرة العربية؛ وذلك من خلال تحليل ودراسة البقايا الحيوانية المتحجرة في غربي صحراء النفود. وأظهرت تلك الدراسات وجود أنواع متعددة من الحيوانات ومنها الفيل مستقيم النابين، وحيوان النّو، والأسماك، والطيور؛ مما يؤكد كثافة الغطاء النباتي وتوفر المياه بشكل دائم، كما أن وجود السنوريات كبيرة الحجم مثل النمر الأوروبي والضبع دليل على أن صحراء النفود في المملكة كانت موطنًا لأنواع عديدة من الحيوانات.
وأشار د. الحربش أن الاكتشافات الأثرية في عدد من مناطق المملكة خلال الأعوام الأخيرة، تؤكد ما تتميز به المملكة من مكانة تاريخية بوصفها ملتقى للحضارات الإنسانية، وتعكس عمق تاريخ الجزيرة العربية ومدى مساهمتها الحضارية في التاريخ الإنساني.
مشيداً بما تحظى به أعمال ومشاريع التنقيب الأثري في المملكة من دعم واهتمام ومتابعة من سمو وزير الثقافة رئيس مجلس إدارة الهيئة.
وأوضح د. الحربش بأن هذه الاكتشافات تبرز تطور المملكة في مجال الكشوفات الأثرية من خلال كفاءات سعودية ذات مستوى عال تعمل بالتعاون مع الجامعات والجهات الحكومية والمراكز البحثية على مستوى العالم في أعمال التنقيب عن الآثار في مختلف مناطق المملكة.