أصبحت عيناي لا تفتآن تسترقان النظر إلى تفاصيل كل صورة لمجلس ولي العهد باحثاً عن اللوحة الفنية التي تتميز باقتناء سموه، لقد كان منظر الأعمال يزداد تألقاً وفخامة به، فهذا عمل للولوة الحمود وذاك آخرُ لزمان جاسم وذلك لفهد خليف، وكأنه احتفاء بهذا المنتج الثقافي وهذه الأعمال الفنية الوطنية، وقد جعل سموه هذه الممارسة الراقية فرصة للاقتداء ومحفزًّا للتطور أمام الطرفين الأهم في هذا الاقتصاد الثقافي: الفنان فيطوّر ويحسّن من أعماله الفنية لتكون منافسةً لأعمال أولئك الفنانين والمقتني فيقتني العمل الفنيّ الوطني اقتداءً، والإبداع الوطني مصيره الاقتناءُ والاحتفاء.
جَعَلَ ولي العهد الاقتناء ممارسةً مرغوبة من الشباب، وبذلك بان أفقٌ لجديدٌ لكثير ممن لم يكن الفن من أولوياتهم إذ أدركوا أن هذه الممارسة إضافةٌ لهم، هي إضافة استثمارية وإضافة ثقافية، وأكاد أرى بذلك نظرة ثاقبة لنظريةٍ مهمة ترى أن المقتني هو المحرك الأهم في هذه العلاقة الاقتصادية بعد الفنان، فهذا السوق الفني - المبني على علاقة الشراء والبيع بين الفنان والمقتني - ليس وليد اللحظة كما يظن البعض، بل هو سوق قديم تطوّر عبر الأزمان وتغيّرت أشكال المقتني فيه وحسب.
لقد تطوّرت سمات هذا السوق من أيام عصور النهضة المختلفة في أوروبا (النهضة الأولى ونهضة الشمال والنهضة العليا) حين كان الفنان يرسم لرعاة فنّه من المؤسسات الدينية وعوائل الطبقات النبيلة ومن ثم التجار وأصحاب الأموال، ثم تحوّل هذا السوق إلى هدفٍ لرجال الأعمال وقادة المصارف والمشاهير، واليوم هوَ سوقٌ لمنتجٍ عالي القيمة وهدفٌ لأولئك الذين يبحثون عن تنويع استثماراتهم، وفي كل مراحل هذا السوق، كان المقتني هو المحرك الأهم لهذه الصناعة بعد الفنان، المقتني في هذا السوق هو المستهلك في العرف الاقتصادي.
المقتني المؤثر من أجل الفنانين المعاصرين
ملأت الإعلانات الشوارع وعمّت الدعاية التلفزيون والراديو، فذلك الرجل - مالك سيارات الأجرة والذي عرف بين أشهر الأغنياء في نيويورك - قرَّر أن يقيم مزادًا يبيع فيه مقتنيات فنية له، ولكنّه مختلفٌ عن المزادات الفنية الأخرى، هذه المرة - وقد كانت الأولى - لن تباع أعمال فنانين متوفين ولا أعمال كلاسيكية في المزاد، كان مزادًا فنيا لبيع أعمال فنانين معاصرين أحياء كآندي وارهول وجاسبر جونز، بتلك العملية الجسورة غيَّر المقتني الأمريكي روبرت سكول سوق الفن ومزاداته في العام 1973، كما تذكرُ روبرتا سميث في مقالة في النيويورك تايمز بعنوان: «شهية للجديد والجديد القادم.»
كانت هذه الممارسة غريبة على هذا السوق، وغريبة على شركة سوذبيز آنذاك، فكان الناس إذا سمعوا عن مزادات الفن ترد إلى بالهم مزاداتٌ تباعُ فيها أعمالٌ للسادة الفنانين الأوائل مثل مونيه وسيزان، ولكن سوذبيز خاطرت بعد دراسة الموضوع مع سكول، وقبلت أن تدير بيع 50 عملاً من مقتنياته، فكان النجاح بهرًا للمتابعين، حيث حقق المزادُ مليوني دولار آنذاك - ما يعادل 10 ملايين دولار في هذا الوقت.
لقد كانت تلك العملية مفصلية في تاريخ السوق الفني، فقد ارتفعت بسببها قيمة أعمال فنية لفنانين أمريكيين معاصرين أضعافاً كثيرة، إذ اشترى سكول - مثلاً - عملاً لجاسبر جونز بـ 10 آلاف دولار وباعه في المزاد بـ 240 ألف دولار، وعملاً لتومبلي بـ 750 دولاراً بِيع في المزاد بـ 40 ألف ريال، كل ذلك ساهم في رفع أسعار أولئك الفنانين، ليس ذلك وحسب، بل إنه لفت أنظار شركات المزادات ودور العرض للقيمة التي يحملها أولئك الفنانون وأمثالهم من المعاصرين والناشئين، حتى صارت عملية الشراء والبيع للفنان المعاصر عملية أساسية في سوق الفن، وبذلك بدأ روبرت سكول عهدًا جديدًا في عالم الاقتناء الفنّي حركه بالإعلانات والتأثير من خلال وسائل الإعلام والدعاية المتاحة.
التأثير من أجل الفن السعودي
إن ما قام به روبرت سكول يعتبر درسًا ونموذجًا للفنان والقاليري وكل المشاركين في العملية البيعية الفنية، فالمقتني - كالمستهلك - هو الحلقة المهمة المحركة لاقتصاد هذه الصناعة، إلا أن المقتني الفرد صاحب الشبكة الإعلامية والاجتماعية الكبيرة ذو تأثير عظيم على هذا على هذا السوق وتحديدًا على مستوى الطلب، فالمقتني الآخر يتأثر بسلوك ذلك المقتني بشكل واضح، وفي حالات مثل قصة سكول يستطيع المقتني أن يرفع من شعبية الفنان ومن أسعار أعماله باستخدامه ما يمتلك من وسائل الدعاية والإعلام، ولعل نموذج روبرت سكول كان ملهمًا لمقتنين آخرين كالمقتنية الشهيرة إيميلي تريمين والتي أضحت أحد أهم المقتنيات في القرن الماضي وقد اشتهرت باقتنائها لأعمال الفنانين الناشئين آنذاك والرائدين لتحفيز المقتنين الآخرين لاقتناء أعمالهم.
أذكر حوارا جرى بيني وبين أحد مديري القاليريات في المنطقة، وقد كان غير مقتنع بالظهور الكبير الذي ظهر به الفنان جورج كوندو، وقال لي: «لولا انبهار بعض مخرجي هوليوود (وهم مقتنون) بأعمال جورج كوندو لَمَا وصلت أسعار أعماله لهذه الأرقام المجنونة»، قد نتفق مع الصديق في أن الموضوع قد يستحيل تضخماً غير منطقي في السعر ولكنّ الشراء بسبب التأثر بالمقتني الخبير سلوك طبيعي، يفسر هذا السلوك روبرت شالديني في كتابه «التأثير» بأن للخبير سلطةً على عقول الآخرين تجعلهم يتصرفون اقتناعًا بأحاديثه وقناعاته، وذلك يجعله فرصة ممتازة لتسويق الفكرة أو المنتج، وبذلك يكون الخبير في سوق الفن – المقتني المثقف المؤثر فرصة لتسويق أعمال الفنان للغير وحتى رفع قيمتها، والمقتنون الجدد يسيرون بطبعهم وراء المقتنين الخبراء.
لا أقول ما أقول تقليلاً من الفنانين، فالفنان هو الركيزة الأساسية في الفن والعنصر المهم في قيمة العمل هو جودة العمل ومهارة الفنان، ولكنني أيضاً أجدها فرصة للحديث عن الدور الذي يلعبه المقتني، ولعلي هنا أستشهد بحالة فريدة في السعودية وهو عبد الله حمود الرشيد، والذي عرف عنه هوسه بالفن، هذا الهوس مصحوبٌ بثقافة فنية واسعة، وقد جعل منصات التواصل لديه نموذجاً راقياً في دعم الفنانين السعوديين المعاصرين، فهو يقتني أعمالهم ويشاركها من خلال جميع وسائل التواصل الاجتماعي، فالفنان المتميز بفنه وجد من خلال عبد الله الرشيد فرصة ونافذة لارتفاع قيمة الفنّ ما يؤدي للاستمرارية.
هذا التأثير الإيجابي وما يصحبه من تفاعل المتابعين واقتناء المقتنين دليل على الأثر الذي يتركه المقتني المؤثر على هذا السوق. فالمقتني السعودي بطبعه يثق في الفنان الذي اقتنى الرشيد عملاً له لما للرشيد من تأثير إيجابي على المقتنين والمتابعين بثقافته وبقدرته الفائقة على تحفيز المتابع له.
المقتني يضبط اقتصاد الفن
بالإضافة لما سبق عن دور المقتني في نشر الفنّ ورفع قيمته المالية فقد يلعب المقتني دورًا إضافيًّا في تنظيم العملية الاقتصادية هذه، فهو مؤثر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي للتوعية بأهمية أن يكون هذا السوق بعيدًا عن العشوائية، وقد اختار ذلك يوسف المحيميد، وهو مقتنٍ مثقف آخر، عرفناه روائياً مهمًّا في الحركة الأدبية السعودية، وعرفناه مقتنيا للفن، وفضلاً عن دوره الكبير في التأثير من أجل الاقتناء، فهو كثيرًا ما يطرح آراءً وتساؤلات تحفز المقتنين والمتابعين له على العمل من أجل تنظيم هذا السوق، وكأنه حمل على عاتقه راية محاربة الفوضى التي تكاد تعصف بهذه السوق الناشئة في المملكة.
يجب علينا الانتباه إلى تساؤلات المحيميد، بل ومحاولة الإجابة عليها بصدق من أجل المحافظة على جاذبية هذا السوق ذي البريق الذي يخطف عيون محبي الجمال، وقد ينفّر بعضهم منه إلى أسواق مجاورة أو بعيدة بسبب بعض التباينات في التثمين للأعمال.
لقد ولدت لدينا تلك التساؤلات والآراء تساؤلات أخرى جعلتنا نتساءل لماذا اشترى المقتني العمل الفني أصلاً؟ ألأنه ذو جودة عالية؟ أم لأنه من فنان ذي سمعة فنية استحقها بالتطور الطبيعي للأعمال؟ أم لأنه رأى مؤثرًا في سنابشات اشترى عملاً من نفس الفنان؟
قد تكون إجابة هذا السؤال بديهية إذا جعلناها عامة بأن نقول إن المقتني يقتني ويستثمر في هذا المجال بحسب مايكل فاندلي من كتاب «قيمة الفن» مدفوعًا بحب حقيقي للفن أو برغبة في عوائد استثمارية أو بتلهف للأثر الاجتماعي الذي تتركه تلك العملية، ومشكلة تثمين الفنّ بذلك أضحت أكثر أهمية اليوم وصارت تحديًّا كبيرًا للمقتني الذي يبحث عن نمو قيمة أصوله، تقول المقتنية العالمية الشهيرة إيميلي تريمين: «إنه من الصعب أن ينكر المقتني هدفه في نمو رأس ماله وأصوله من خلال الاقتناء» ولكنّ هذا النمو يصبح مثار التساؤل حين ينعدم الوضوح (أو الثبات) في منهجية تثمين الأعمال الفنية.
التثمين المستحيل
يكاد يضحي التثمين المنطقيّ مستحيلاً في هذا السوق الذي لا تنساب فيه المعلومات بشكل دقيق وواضح للجميع، فلا يعرف الكثير منا الأسعار التي تعرض بها أعمالُ فنانٍ مثل فهد الحجيلان - رحمه الله - في قاليري في الرياض على مقتنٍ من أهل الرياض وفرقها (نمواً أو انخفاضاً) عن أعمال من نفس المجموعة والمرحلة الفنية عندما تعرض من خلال قاليري آخر في جدة على مقتنٍ آخر من أهل جدة، فضلاً عن تشتت المعلومات واختلاف الآراء والتفاصيل، ولعل ذلك يدعونا للبحث عن حلول لمشكلة هذه الفجوة المعلوماتية التي قد تجعل من هذه العملية البيعية غير عادلة لبعض المقتنين أو الفنانين أو حتى دور العرض (القاليريات).
** **
- فيصل بن محمد آل صقر