النمو في الاقتصاد والعلوم والفنون والمعرفة والثقافة والإبداع هو هدف الحضارة منذ نشوئها. وأي نظام اجتماعي- سياسي لا يحقق ازدهاراً يموت بالضرورة، والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة.
لا أحد يستطيع نكران أن النظام الاقتصادي الرأسمالي يحقق معدلات نمو هي الأعلى قياساً بالأنظمة التي سبقته. ولا أعتقد شخصياً أن النظام الرأسمالي قد بلغ مرحلة الشيخوخة كما يعتقد البعض. فالنظام الذي كان يُسمي نفسه «اشتراكياً»؛ ويطرح نفسه بديلاً عن النظام الرأسمالي قد سقط؛ لأنه لم يحقق «ازدهاراً»؛ ولم يكن بمقدوره الاستمرار.
بيد أن النظام الرأسمالي حالياً يتجه بخطين متوازيين لن يلتقيا. الخط «الإنتاجي» الذي تقوده الصين «وشركاؤها»، والخط «الريعي» الذي تقوده الولايات المتحدة «وتوابعها». ما الفرق بين هذين الخطين؟ وما هي آفاق تطورهما؟
الاقتصاد عموماً يقوم على أطراف ثلاث؛ هي المنتِج والمستهلك والمشرف على الإنتاج. وفي الاقتصاد الرأسمالي «الإنتاجي»؛ الذي يهدف إلى نمو كمية ونوعية السلع المنتجة؛ لا بد لهذا النظام من تطوير «قوة» الإنتاج كلها؛ والمؤلفة من المنتِج والمستهلك والمشرف؛ أي تطوير «الإنسان» أولاً؛ ثم تطوير الآلة التي يشغلها ذلك «الإنسان»! ... وبهذا الشكل تكون «الحداثة» ليست ترفاً ثقافياً، بل آلية أو ماكينة تحريك الاقتصاد الإنتاجي! ولن تكون الحداثة في هذه الحالة هي نزعة نحو التقدم والازهار وحسب، بل هي «ضرورة» لاستمرارية ونمو رأس المال.
أما الاقتصاد الرأسمالي الريعي فهدفه «الربح» وليس الإنسان المنتج للأرباح! فإذا كان هناك مصنعاً يحتوي آلاف العمال؛ وينتج أفخر أنواع السلع؛ ويحقق أرباحاً سنوية بمقدار 5 % مثلاً؛ ثم اكتشف صاحب المصنع «المشرف»؛ أن البنك يعطي 8 % على الوديعة؛ فلا مانع لدى ذلك المشرف؛ أن يسرح العمال ويشرّد أُسَرهم ويتوقف عن إنتاج سلعه «الفاخرة»؛ ويضع رأسماله وديعة لدى البنك! ويغمض عينيه وبصيرته عن أن الـ 5 % دائمة وقابلة للزيادة؛ بينما الـ 8 % ليست دائمة وقابلة للانهيار! ... ليس هذا وحسب؛ فالاقتصاد الريعي يقود إلى وضع مصير المنتِج والمستهلك والمشرف بيد البنوك أو الطغمة المالية التي يطلق عليها في الصحافة الغربية اسم «الأوليغارشيا». وهذه الطغمة هي مافيا؛ لا تتوانى أبداً عن الإبادة الجماعية في سبيل تحقيق الربح! ... والحداثة أشد أعداء هذه الطغمة، فهي تعي أن الحداثة ليست خياراً إنما هي حتمية، ولذلك فهي تحارب الفكر والإبداع التقدمي بكل أشكاله. وتروّج للتفرقة بكل أنواعها؛ العنصرية والدينية والأثنية والمناطقية ... إلخ، كل ذلك من أجل تأجيل سقوط تلك الطغمة.
المؤشرات الاقتصادية تشير إلى أن معدلات النمو تنهار في الاقتصاد الريعي، وأن المافيات المصرّة على استمرار هذا النمط تتخبط من فشل إلى آخر. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستًقْدِم هذه المافيات على حرب عالمية لا تبقي ولا تذر؟ أم ستضطر للتراجع والرضوخ للأمر الواقع، كما اضطر ملاكي العبيد والإقطاعيون من قبل؟
** **
- د. عادل العلي