-1-
تضمنت مجموعة الشاعر حميد سعيد الأخيرة (ما تأخر من القول)، الصادرة عام 2019م، القصائد للسنوات ( 2016-2019م)، وهي محمّلة بإحالات واضحة إلى الكلام / القول ورواية الأحداث؛ ذلك أنّ القول يعني التقديم بواسطة الراوي الذي يعوض عن عرضه للأحداث والحوادث بشكل درامي ومباشر، يتكلم عنها، يلخصها.[ التخييل القصصي ( الشعرية المعاصرة): شلوميت ريمون كنعان، ترجمة لحسن إحمامة، دار الثقافة (الدار البيضاء، 1995م)،ص158].
والشاعر فعلاً يري ما يعانيه في لوقت الحاضر من غربة/ نفي بعيداً عن بلده بعد تقدم السن به، حيث صار العكاز صديقاً حميماً له، وهو يشير إلى عكازه بوضوح، كعلامة فارغة للشيخوخة، أو العجز؛ فالعصا في الشبب لها دلالة ذكورية، تشبه دلالة الأفعى لدى العبرانيين، لأنها قادرة على الإجهاز على ثعابين السحرة، وحين تصبح عكازاً تضمر دلالتها الذكورية كما تضمر قوة الإنسان، فهي تعوضه عن نسيان أصدقائه وأحبته له من الذين فارقوه قبل نصف قرن، والشعر يقدم الرسالة / القول للناس، يدعوه لقراءة الحاضر، وتدبر الماضي واستحضاره فهو يحمل معه ما تأخر من الكلام، وما بقي في جعبة الحاضر من مخاوف وأوجاع.
حميد سعيد في مجموعته هذه يعاني غربة المكان ووطأة الزمن، في آن واحدٍ، وثمة فراغات كثيرة في هذه القصائد على القارئ أن يملأها حتى يكتمل القول/ الكلام، في سيرته الشعرية هذه، فهو يتردد على المشافي لمراقبة صحته، وعلى المقاهي يبحث عن أصدقائه الذين غدو عجائز وما عادت الذاكرة تستدعي صورة الشباب الآفل؛ فقد تغيرت الظروف وتفاقم صمت الأحداث، وتلاشت الأحلام على قارعة الانتظار، وهموم الحياة ومتاعب العمل كلها تضغط.
الشعر في هذه القصائد يترشح مثل قطرات ماء من الكوز ينذر بخواء المستقبل، وتكاثر الجراحات، الجمل الشعرية مقتضبة وبعضها ناقضة، سقطت بعض مفرداتها في زحمة الانثيال، والقصيدة لدى حميد سعيد مشروع لم يكتمل بعد لاستدراج الأوجاع المريرة، الشاعر ليس وحدة، معه صديقات ومحبات قديمات ما عاد يتذكرهن، وكأنه يقول لهن ليس لي وقت لإعادة الذكريات، أو لإرغام الزمن على العودة على أصح تعبير.
-2-
تتردد شخصية المسن، على المشفى وتغادر المقهى، يحلم أو يتوهم بلقاء امرأة، والقول لديه جزء من تاريخ يتأرجح بين الحاضر والماضي، تتكون قصيدة (رجل السبعين.. وسيدة في....؟) من عشرة مقاطع، وفيها تبدو المرأة شبه مجهولة في حياتها، تسير فيها القصيدة كالحكاية من البداية، حيث يلتقيان في المشفى، وتبقى الكثير من الأفكار مجهولة مجرد نقاط، وثمة أسئلة كثيرة أجوبتها مؤجلة، هي ما تأخر من القول، حيث يقول:
غادرتُ المقهى..
فتذكَّرتُ خفق عباءتها..
ابتعدت ..
... ...
شخنا.. وتغيّرت الدنيا
الاّ خفق عباءتها.. ظل كما كان [ ص 9/ دار دجلة، عمّان 2019م]
يبدأ هذا جزء من المقطع، بضمير الغائب (هو)، ثم ينتقل إلى ضمير المتكلم (أنا)، ثم يعد، وثمة حوار داخلي مضمر هو (شخنا.. وتغيّرت الدنيا)، يستعين بالأقربين منه لمعرفة حاله، حيث يكون القول من نصيب جارته، ويحدث أن يتسرب الحديث إلى الأعماق (وكنت أمشط شعري)، وهو الآخر يتذكر أيام البرد في بغداد، والفراغ الذي عبرت عنه عنوانات القصائد وبعض المقاطع تعبير عن تداخل اللقطات - الصور - الأصوات، وجزء من الحكاية الشعرية، كما في المقطع الثامن، حيث يقول:
ثمَ تخيله.. امرأةً
أعطاها اسماً..
واختار لها زمناً.. وحكاياتٍ
كان يقول.. لماذا لا تسأل عني؟ [ص13]
كما أنها كانت تقول له إنها رأته في المقهى، فيجيب:
بلى..
ماذا تنتظرين..
من رجلِ بعد السبعين ..؟ [ص 14]
وتنتهي القصيدة في لقطة وهمية حين يحييه، فلما يستغرق في وهمه هذا، ينبهه النادر، إذ تبدو أمكنته قليلة غالبها ( المقهى، الشارع، المشفى)، وشخصياته كذلك قليلة (هو، المرأة، النادل) مع بعض الشخصيات المكملة لها، ويبدو المطروح على الطاولة أقل من المصرّح به على طاولة التذكر/ الوهم / المحذوف. كلماته وجمله بسيطة، معروفة وليس فيها تعقيد، ولكنها أشبه بشفرات/ حكايات / استذكارات عن الماضي تسرد في الزمن الحاضر، معادلات متداخلة ومحاولات متعددة تكشف المضمر من القول من خلال القراءة، والقراءة الأولى تبدو إدهاشية؛ بينما تبدو القراءة الثانية معرفية غايتها معرفة صوت الشاعر عن أصوات الآخرين، والقراءة الأخرى تندمج في سرد الحكاية الشعرية.
-3-
وحين يعلم من البواب أن الله توفاها، يقفل الموت على نهاية الحكاية، فلم يبق لديه سوى الأحلام والأوهام، هذا الرجل فوق السبعيني ينتقل إلى قصيدة (الشيخ والغزالة)، حيث تدخل الغزالة ممثلة أوهامه لتشاركه رحلة القصيدة، فهي لها ثالوثها (الحب، والحب، والحب)، والغزالة إحالة واضحة إلى الشباب والحب، وصورتها صورة معبرة عن ألق الشمس، والتعبير عن الجمال والحب، وجلّ طموحه أن يراها، ذلك أن النظر بالعين يعيد تشكيل الصورة، مثلما يرى الإنسان صورة الشمس الباذخة، والشاعر يترك الكثير من الصور والأفكار معلقة على طاولة الحذف، ذلك أنه حين يراها:
كما النهر حين يفيضُ..
في بيتها ينزل الدفء ضيفاً، ويسكنهُ..
إذ تطوقهُ بالحنان
وتغطي فراشاً يشاركها فيه.. بالزعفران [ص 18]
فلماذا يستخدم أداة التشبيه مقرونة بما (كما) حين يشير إلى العلاقة بين الغزالة والنهر؟.. أفي الدفء وفي الضيافة وفي الحنان؟..
يعيش الشاعر غربته الحقيقية في المكان فيبحث عن الدفء في برد عمّان، لأن الشيخ يهدمه الشتاء، كما قالت العرب قديماً، أو لأن الدفء هنا إعادة بناء وحنان أو محاولة لاستجلاب دفء الشمس من خلال اقتران الغزالة بها؛ وهنا لا بدّ أن نعرف لماذا اقترن الدفء في فراشها بالزعفران؟
والزعفران نبات له قدسية خاصة، مثلما له أهمية غذائية وصحية وعطرية، وله علاقة باللون الأصفر، لون الشمس قرينة الغزالة، والزعفران يوضع على بعض الأكلات الطقسية ذات الجذور الزرادشتية القديمة، ويستخدمه المتصوفة وغيرهم في استجلاب الحب، وإبعاد الحسد ومواجهة فعل السحرة؛ مما يعني أن الشاعر يتوسل تلك الغزالة لكي تمنحه قدرة الزعفران على خلق الدفء والحنان والأمل.
وتبدو الجمل الشعرية لديه، مشبعة بالحاضر، جمل فعلية يشكل الفعل المضارع غالب صورها وإحالاتها الرمزية، بشكل يشير إلى أن حاضره بات مهدداً، وماضيه استحال إلى مجرد ذكريات مرت تحت ظلال الصمت؛ ذلك أن جملة (لا يتذكر) ليست سوى حرائق للخاتمة، أو حرائق سياسية.
إذا كانت العكازة رفيقة عمره في قصيدته الأولى (رجل في السبعين.. والسيدة في ...؟) فإنها عادت إلى واجهة العنوان من جديد في قصيدة (العكازة) وهي تشاركه في محفل الصمت، يتوكأ عليها ويحاورها، لأنه يعيش غربة حقيقية، في بلاد بعيدة، وأصدقاؤه تفرق بهم الدهر، بين ميت أو عاجز، حتى صار (الفضاء الرمادي / مأواه)، وقد تجاذبه الوهم، فلما بلغه الحزن يسترسل ليقول في نهاية القصيدة:
هي عُكازَةٌ..
يستعين بها.. حين يغدو بعيداً عن الناس...
يحكي لها.. وتشاركه الصمت.. [ص24]
إنه يتوهم ليهرب من واقعه، ومن تأثير وطأة الزمن عليه، عبر التصورات البعيدة، ثم يصحو، وحواره وحكاياته التي يديم سردها، تتشكل مع ثنائية الشيخ والعكازة، أو الجسد والعصا، حيث تعود العصا للهور بطريقة إشارية مضمرة في قصيدة (حكاية من لا اسم له)، من خلال إحالته إلى عصا النبي موسى، لأن له فيها مآرب أخرى، كما في الإحالة الإسلامية في القرآن الكريم.
وفيما عدا ذلك فإن الأشجار والنباتات، تتمثل كرموز للخصوبة، رموز للإعادة الحياة ومواجهة النفي والشيخوخة، لأن الحياة تتجدد دائماً، ولعل من أسباب شعوره بالقلق من حاضره، هو كثرة استعماله للأفعال المضارعة، لأنها أقوى تأثيراً في التعبير عن سيرورة الزمن، وفي قهر الألم، وبعث الحياة في ثنايا الجسد المتهالك، ولأن العكاز أداة مساعدة ولها دلالات متعددة، فإن دلالتها على العجز والشيخوخة في شعر حميد سعيد أكثر وضوحاً من باقي الرموز الأخرى، ومن تلك الرموز تضاؤل القدرات الجسدية.
-4-
تشكل رموز الخصب والجمال مادة مهمة في قصائده، الخصب بكل أنواعه، فالنخلة في قصيدة (أكان له من يودعه؟)، تمثل غياب الخصوبة، وضمور الجسد، أما قصيدة (عرس الكليلو)، فهي واحدة من صور الخصب والجمال، لأن الكليلو، كما شرح ذلك الشاعر وكما نعرفه يتكاثر في وقت الربيع، فيهيج ليتصاعد على سطح الماء، لتتسافد على سطح الماء الجاري، ثم تموت الذكور حين السفاد، والشاعر يلتقط هذه الصور من ذكرياته عن جسر المسيب، الذي توجد عنه أغنية تتحدث عن انقطاع حباله وانحداره نحو الجنوب؛ مما يشير إلى اجتماع الموت والولادة في آن واحدٍ، فالنهر رمز للخصب، وهروب الجسر وموت الكليلو رمز للموت، وهو في الغالب في قصائده يوظف الأمثال والحكايات بطريقة إشارية/ علاماتية توحي بما يريد أن يقوله، كما في (عرس الكليلو، زعلة العصفور على بيدر الدخن)، وعن الأخير يقول:
وهي تكتب ساخرةً منه..
لقد هجر العصفور الحقل..
فزاد البيدر.. وازدهر الحقل [ص 31]
ورمز الخصوبة هنا ربما يحيل إلى العصفور الذي بكثرة التزاوج، فهجره للبيدر، يعني تلاشي الخصوبة، ولكن زيادة الحقل هنا لها دلالة أخرى، لأنه سيصبح مهجوراً، وربما يحيل إلى جسد المرأة التي كبرت حتى هجرت تواصها الجسدي.
تكمل فكرة (رحيل الأشياء) فكرة غروب الخصب والقوة الجسدية، التي عبر عنها في عدد من قصائدها، كما في قصيدة (العجوز اليساري) الذي لم يعد لديه ما يتذكره، فكلما تمرّ به امرأة هي رمز للخصب تسأله:
أتعرفني؟!
ويواصل ما قاله لحفيدته..
وهي مشغولة عنه.. [ص88]
يوحي صمت الرجل أو صمته أمام المرأة بغروب القوى التي تحرك فيه الحنين إلى الجسد والجمال، أم الشجر البابلي رمز الخصب فإنه في قصيدة (زيارات الشجر البابلي) يقترن بالنسيان والعواصف، حتى صار (خبز البلاد/ بارداً ../ وكساه الرماد)؛ وكذلك الحال في قصيدة (يوميات الشجر البابلي) حين لم تعد اللقالق إلى أعشاشها؛ فقد (اختفى كلّ ما خلّق الملوك القدامى/ وما كتب الشعراء وما كان في الذاكرة)، وفي (منازل الشجر البابلي)، تقترن الرياح برمال رمادية ينكرها العشب، وهكذا يتوارى الخصب تحت ظل ضغط الشيخوخة والنفي والغربة.
-5-
في القصائد التالية ثمة صراع دفين بين الشرق والغرب، ينطلق من امرئ القيس وغدر الروم به، حتى الوقت الحاضر، كما في قصيدة (امرؤ القيس.. يحاول ملكاً)، حيث يموت وحيداً حتى (أنكرته قصيدته وحبيبته والبلاد)؛ فيتحول امرؤ القيس إلى رمز للملك المخذول، لقد فقد عرشه وراح يستنجد بالآخر، لكي يحقق طموحه، لكنه فشل، وحكايته تحيل إلى أنّ تهمة الخصاء كانت تطارده دائماً. «لقد ضيعه أبوه صغيراً، وكان تضييعه له بمثابة خصاء.. منذ الصغر كان أمرؤ القيس يعاني منه عقدة الخصاء. ولهذا السبب سرق منه العبد في حكاية اللغز فحولته، كما سرقها منه علقمة الفحل. ولهذا السبب أيضاً كانت تكرهه النساء». [ص36/ الكنز والتأويل، قراءات في الحكاية العربية: سعيد الغانمي، دار الشئون الثقافية العامة – كتاب الأقلام (بغداد، 2013م)].
أما سبب اغتيال أمرئ القيس، فهي غير مقنعة، وخصوصاً إذا علمنا أن الاغتيال حصل بسبب عشق بنت قيصر الروم له، لأن من الأسباب المقنعة التي تدحضها هو غياب اللغة المشتركة بينهما، وصعوبة الاتصال بها، ومن هنا كانت الحكاية من نسيج الخيال العربي، والحلم الرومانسي، ولكن السبب المقنع هو الرؤيا الحديثة لها، وهي إن حصلت بسبب خوف الروم من غدر العرب، أو من تنامي قوتهم، وهم يمثلون الصحراء/ المتاهة والخيول الجامحة التي لا تدركها جيوش الروم.. والشاعر حميد سعيد يحيل ضمناً إلى فكرة التعاون والاتفاق بين الشرق والغرب، لأنهما ندان لا يلتقيان في غالب الأحيان، وأن الرؤية الحالية لدى الغرب بشأن العرب مستقاة من كون العرب بقرة حلوب، وأنّ أحلام الملك الضليل هي مجرد (تخيّل)؛ وهذا ما تفسره قصيدة (تأويل الخراب) حينما يجري استبدال الأمهات بالماجنات، ولكنه لا يقوى (على القول) حين يعود إلى فكرة القول، بعد أن اختفى الأمان وغابت الألوان، وهو يستمر في قصيدة (تأويل الغياب، والتي تدور حول (مغنية الحي)، التي تعود بعد الغياب، بعد تغيّر الأحوال فيتجاهلها العشاق والجيران، فليس ثمة غناء ولا حفاوة به، ولا بأهله، وقد تحولت مدن البلاد إلى مدن شاحبة، وهنا يتساءل:
لمن ستغني؟
ومن سيعيد إلى مدن الماء ما كان من كبرياء
وما كان من أملٍ بحضور حدائق غنّاء..
في كلِّ دار
من يعود إلى مدن..
فالتساؤل يحتاج إلى إجابة، ولكن دائماً تبقى الإحالات مؤجلة، حيث يهيمن الاستفهام على الجمل الشعرية، فيجعلها صوراً متشظية، مثل شظايا العطر التي تلاشت بسبب طول الغياب، وتلاشى معها جمال الحياة؛ وهذا التساؤل يستمر معه في قصيدة (تأويل الاعتكاف) التي تبدأ بقوله (أتراها؟؟)، حيث تحضر لديه الأغنية الخضراء في المشهد، والتي يسرد حكايتها عبر الاستذكار:
وجدنا مدناً منسيةً
.................
وتختار لها موتاً مريباً [ص87]
يبدو حضور صوت الشاعر بوضوح، وهو يتحدث عن مدنه المنسية، التي صار لها آلهة من الخصب، غير آلهتها المعروفة، صارت تختار لها (موتاً مريباً)؛ فالريب هنا بمعنى الشك الذي يقترب من اليقين، وهنا تساءل: لماذا اختار للخصب آلهة؟ ألأنه يريد أن يقول لنا بأن زمن الخصب قد انتهى، وحلّ محله الموت المريب؟
القصيدة لديه تنساب مع هواجس الغربة والشيخوخة، حيث الاقتراب النهايات التي رسمها الآخر المتسيّد، وهو غالباً ما يترك بعض الأفكار للقارئ لكي يؤولها، ويرسم صورة لها، والفراغات التي تركها ليست تعبيراً عن عجز في الإيضاح، ولكنه تعبير عن بلاغة التأجيل واستشراف، يريد من القارئ أن يندمج معه، في الاستشراف، في كشف حلقة من حلقات الكلام المحذوف وإزالة اللبس، لكي يحصل الاقتراب من المجسات البعيدة الموغلة في أوجاعه وتهجداته، يحلم ولكن ليس من يفسر له أحلامه.
** **
- د. قيس كاظم الجنابي