الجزيرة الثقافية - جابر محمد مدخلي - جازان - ضمد:
* المتابع لجميع ما قدمه الأستاذ الدكتور حسن بن حجاب الحازمي لمشهدنا الثقافي من إبداع متنوع بين القصصي، والشعري، صعودًا إلى الإبداع السردي والنقدي، سيجد أنّ هناك لغة فنية متصاعدة. فما الظروف التي أحدثت هذا الانتقال؟ وكيف استطعتم الحفاظ على جميع هذه اللغات الفنية دون أن تتداخل في بعضها؟
- سؤالك يتضمن حكمًا نقديًا، أو على الأقل رأيًا شخصيًا، فيه إشادة بكتابتي، وهو أمر يسعدني بكل تأكيد، وأتمنى أن يشاركك فيه القراء أيضًا. وحقيقة لا أدري كيف أجيب عن هذا السؤال؛ فالجزء الأول أخجلني، والجزء الأخير من السؤال حيّرني.
فمسألة التصاعد في مستوى الكتابة - إن كان هناك تصاعد فعلاً - أمر حتمي، تفرضه التجربة والقراءة والخبرة المكتسبة. وبالتأكيد لن يكون مستوى الكاتب في عمله الأخير مثل مستواه في أول عمل قدّمه، سواء كان هذا العمل عملاً إبداعيًا أو عملاً علميًا. ولكن لعلي أفهم من سؤالك أنك تقصد كيف يمكن للكاتب أن يحتفظ بالفرق بين كتابته الإبداعية وكتابته النقدية / العلمية، وأن لا يخلط هذه بتلك.
وفي هذه الحالة يمكن أن أقول لك إن الكاتب الذي يكتب في أكثر من حقل عليه أن يعي أن لكل حقل لغته الخاصة؛ فلغة الكتابة الإبداعية تختلف عن لغة الكتابة النقدية؛ لغة الكتابة الإبداعية لغة حرة، مراوغة، مخاتلة، منزاحة، تنبني على الرمز والإيحاء والمجاز، والصور الإبداعية، وتسعى إلى إدهاش القارئ، وزعزعة يقينه. بينما لغة النقد لغة علمية، واضحة، محددة، حاسمة، معقلنة، وهي بالتأكيد لا تخلو من الأدبية، لكن الأدبية ليست هدفها.
وعلى المستوى الشخصي حرصت على الحفاظ على هذه المسافة بين لغتي في كتاباتي الإبداعية، ولغتي في كتاباتي النقدية.
أثناء الكتابة الإبداعية أتناسى حسن حجاب الناقد تمامًا، وأحاول أن أحلق بروح حرة في فضاء الإبداع، وأسمح لكلماتي بأن تتلون وتتشكل بحسب ما تمليه عليها الحالة الإبداعية، ومعطيات النص، بعيدًا عن رقابة الناقد وروحه. أما أثناء الكتابة النقدية فإني أخضع قلمي لمتطلبات المنهج العلمي، وصرامته، مع الحرص على ألا أفقد روح الأديب، ففي كل الأحوال أنا أكتب أدبًا، وأحاور أعمالًا أدبية، ولكن ذلك لا يجعلني أتناسى أنني أكتب عملاً نقديًا، يُفترض أن تلتزم لغته بالعلمية والصرامة والوضوح. وهذا أمر صعب للغاية، ولكن المراس والتمرين والتجربة ستساعد على ذلك، وفي هذا الصدد أتذكر تجربتي في مرحلة الماجستير مع مشرفي سعادة الأستاذ الدكتور عبدالله العريني، الذي عانى كثيراً من كتابتي الإبداعية في مراحل كتابتي الأولى، وكانت تعليقاته الكثيرة التي ما زلت أحتفظ بها تصب في هذا الاتجاه، وتحاول أن تقوّم أسلوبي في الكتابة. وكم حذف مقاطع وجملاً وعبارات، وكتب عليها (هذه لغة شعرية لا تتناسب مع البحث العلمي. احذفها أو صُغها بصورة علمية).
وربما لن يصدق أحد أنني أعدت كتابة بعض فصول رسالتي (البطل في الرواية السعودية) أكثر من ثلاث مرات؛ حتى أتخلص من اللغة الشعرية، وأصل إلى اللغة العلمية.
هذه التجربة أثرت في لغتي النقدية كثيراً، وجاءت التجارب النقدية التالية لتصقل هذه اللغة النقدية، وتوصلها إلى ما وصلت إليه والحمد لله.
* قدم الحازمي في كتابه (البناء الفني في الرواية السعودية) للقراء روايات سعودية من خلال تحليله ودراسته ونقده لها، وفي بعض ما قدمه بأسلوب النقد استدرك ورأى بتصويب ملاحظات كثيرة على الروائيين، فهل قوبلت دراساتكم النقدية التطبيقية هذه بردود أفعال مؤثرة؟
- هذه النقطة بالذات من النقاط التي لاحظها عليّ المناقشون للرسالة، وكانت وجهة نظرهم - وهي صائبة - أن الناقد يجب أن يتعامل مع النص كما هو، لا كما يفترض أن يكون، وألا يقترح على الكاتب ما يفعله.
- فالناقد أو الباحث أمامه نص منجز، وليس بالضرورة أن يكون كما يتمناه الباحث أو يريده؛ ولذلك عليه أن يتعامل معه كما هو.
ومع أنني دافعت عن وجهة نظري، وقلت إنني توقفت عند بعض الأخطاء السردية التي يفترض أن أقول رأيي فيها، وأن أقترح الحل الأفضل؛ لعلّ ذلك يسهم في إفادة بعض الكتّاب لتلافي أخطائهم في كتاباتهم اللاحقة؛ أقول مع ذلك فإنني اقتنعت بوجهة نظرهم؛ لأنني اكتشفت لاحقًا أن مبدعينا لا يقرؤون ما يكتب عنهم، ولا يعيرونه اهتمامًا.
وأنا أقول لك الآن إنني لم أتلقَّ من أي روائي من الروائيين الذين كتبت عنهم أي إشارة تفيد بأنهم قرؤوا، ولم ألحظ في أعمالهم التالية أي استفادة من الملحوظات التي قدمتها.
ولكن في المقابل فإن ردود الأفعال الجميلة والمؤثرة هي تلك التي تلقيتها من عدد من الباحثين والباحثات الذين رجعوا إلى دراستي هذه، وأفادوا منها.
* في كتابكم بحوث في الرواية السعودية الصادر في عام 2019م عن دار النابغة سيجد القارئ الفاحص أنّه عبارة عن مشاريع بحثية عدة في حِقب زمنية منصرمة ومتفاوتة غير أنها تجمع بين روايات الأمس واليوم. فهل هناك ثمة روابط بين هذه الأعمال الروائية التي تمت دراستها من وجهة نظركم؟
- سأحاول الهروب من شَرَك هذا السؤال بإيضاح نقطة مهمة، تتعلق بالأكاديميين وبحوثهم العلمية التي ينجزونها من أجل الترقية إلى رتبة أستاذ مشارك ثم أستاذ.
هذه البحوث يبذل فيها الباحثون جهدًا كبيرًا، ووقتًا طويلاً، ويحرصون فيها على الدقة والمنهجية، لكنهم مجبرون على نشرها في مجلات علمية محكمة. وأغلب هذه المجلات العلمية المحكمة ليست مقروءة بصورة كبيرة؛ لذلك فإن الباحث بعد حصوله على الدرجة العلمية يفكّر جديًّا في إتاحة هذه البحوث أمام القرّاء؛ ومن هنا يسعى إلى جمع المتقارب منها في موضوعه، ويختار عنوانًا يتوقع أنه مناسب وجامع لها، ويصدرها في كتاب؛ لكي يتيح للقراء فرصة الاطلاع على هذه البحوث التي بذل فيها جهدًا كبيرًا. فالكتاب ربما يكون أكثر انتشارًا ووصولاً إلى القارئ من كثير من المجلات العلمية.
ومن هذا المنطلق كان كتابي (بحوث في الرواية السعودية) حيث اخترت أربعة بحوث من بحوث الترقية، يربط بينها رابط مهم، وهو أنها كلها تدور حول الرواية السعودية. وقد ذكرت ذلك في المقدمة. وعلى الرغم من التفاوت بينها في الفترات الزمنية، وفي المنهج وطريقة المعالجة، لكن لعلّي أطمح إلى أن تكون روح الكاتب واحدة وحاضرة فيها كلها. ولعلّي أطمح أيضًا إلى أن يحصل القارئ في كل بحث على متعته الخاصة؛ فميزة مثل هذه الكتب أنها تتيح للقارئ أن يختار ما يشاء، ويتجاوز ما يشاء.
* بين الحازمي شاعرًا، وقاصًا، وأكاديميًا ناقدًا ما الذي تغير؟ وما الذي استجد؟
- لا أدري ما الذي تغير وما الذي استجد.
ربما توقف الشاعر عند خطوته الأولى المبكرة، فلم أصدر شيئًا بعد ديواني الأول (وردة في فم الحزن)، لكني ما زلت أركض في ميدان القصة القصيرة، ولي حتى الآن أربع مجموعات قصصية، آخرها كانت مجموعة (أمس) الصادرة عام 2020م عن دار النابغة.
أما الكتابة النقدية فهي جزء من حياتي العلمية والأكاديمية، لا أستطيع التخلي عنها، أو التوقف حتى لو أردت.
لدي سبعة كتب - والحمد لله -، وأعمل الآن على ثلاث دراسات، سترى النور قريبًا إن شاء الله.
ولديّ قراء يشجعونني، ويحتفون بما أكتب، وهم الدافع الأقوى للاستمرار، وأحمل في داخلي حبًا حقيقيًا لما أفعله؛ لذلك أعتقد أنني سأستمر بالعمل ما دمت أملك هذا الحب.