يبني الشاعر مملكته.. ثم يختار لها شعبه.. فالشاعر ليس بريئاً من الإقصاء في خدمة شاعريته, ثم يُعد القراء هذا الإقصاء غموضاً يتهمونه به أو يتهمون أنفسهم بأنهم أقل علماً وفهماً من اتساع شاعريته.
والغموض وهمٌ ضروري يحتال به الشاعر على جمهوره ويختارهم في الوقت نفسه, فهو حين يراوغ خفاياه ويبسط معانيه فهو يصنع المساحة من الأفق ويمد فيه حدود خريطته, ويدعو شعباً من القراء ثم لا يسمح للدخول في مملكته إلا من أراد أن يفهم قوانين نصوصه الخاصة. ولا نفهم قوانينه إلا إذا نحن دخلنا كلماته وتحركنا في صفوفها وسطورها, وتلك هزائم الشعراء وانتصاراتهم, غير أن الكاتب لا يبني حصونه الرمزية ولا تماثيله الشعورية إلا حين يريد أن يبني العلاقة التي كانت مهملة بين الكاتب والقارئ فكيف يختار جمهوره؟!
إن الشعراء سلالة للرمزية البشرية منذ أنشأ الإنسان الأول الحكايات وخبأ في داخلها تاريخ معرفته, وظل يصنع لكل فكرة حكاية ظلت تدور في الأرض آخذة عن كل قطر بعضه, ومن كل مكان جزأه, وبقيت الحكايات الرمزية تصنع ملامحها على مر العصور والأوقات والأماكن والأجيال التي تتعاقب فيها حيث يصنع كل جيل زيادته فيها, حتى وصلتنا الحكايات مثقلة بالرموز التي لخصت لنا كل رحلاتها منذ الأزل, وظلت تُخلَق في كل ثقافة خلقاً جديداً تتكيف مع الثقافة التي تتبناها صانعة لها ملامحها وشخصيتها الجديدة, ومن الحكايات جاء الرمز لغة يستخدمها أصحاب الفنون والثقافات وكان الباب الذي دخله الإنسان الأول إلى الكون وظل يدخل وما زال يدخل حتى اليوم.
دخله إنساناً باحثاً عن طريقة للتواصل فخلق لغته, ثم خلق منها مخابئه ورموزه. والرمز حقيبة فضفاضة مملوءة بالتاريخ ومعجم لغاته تتسرب من خلالها ذاكرة البشرية في الديانات والثقافات والفنون, ومن غير الممكن أن نتصور الرمز على أنه كينونة مستقلة عن الثقافة, حيث إن الثقافة تصنع كل ما يؤدي إليها, فتصنع الحكايات وتضمنها رموزها, أو تنشئ الفنون وكل ما يمكنه أنه يخلق لغة للتواصل والارتباط ثم تمنحها سيادة قيمية تنهض في كل فرد نهوضاً جديداً. كما كان العربي يشعل النار في الصحراء لتدل العابرين ومنقطعي السبل إليه, فهي رمز وجوده وجُوده كذلك؛ لأنه ينبه من لا ينتبه بأنه هنا وبأنه مستعد لإقامة واجب الضيافة, فأطلق العرب على الكريم بأنه (كثير الرماد) دلالة على كثرة الضيوف ومن ثم كثرة إشعال النار التي تنضج الطعام ومن ثم كثرة الرماد.. ثم أُرسلت رمزاً ولن يمكننا أن نستخدمه الآن لما اختلف من الزمان وما تغير من العادات, والرموز الكنائية كما نعرف لعبة بلاغية يمكنها أن تتحول إلى رمزية.
وقد ظلت الثقافة تصنع رموزها وتصنع امتدادها من أول اللغة, وكلما انحدرت سلالة تلك الرموز من تاريخ نشأة الإنسان ضاقت حلقاتها, فرمز التفاحة التي أخرجت آدم من الجنة رمزية بشرية لا يختص بها قوم عن قوم ولا دين عن دين, ولا مكان عن مكان, وهي تختلف مثلاً عن الرمزية الخاصة بالبلدان أو الأعراق أو الديانات, ثم تضيق حدود الرمز حتى تصل إلى المؤلف الذي يخلق استقلاليته الرمزية, فيرتفع عن كل ما يهبط بالنص الشعري عند أعتاب المباشرة, وينطلق بالنص من قاعدة الواقع ليصنع أسطورته, فتجده يفكك نفسه في فضاء متسع من العلاقات والدوال ويُزيح الواضح من نفسه ويعيد ترتيب خصوصيته؛ حتى إذا تعرف على نفسه الجديدة ألقاها حجراً في بئر النص وعلى من يأتي ليقرأه أن يفهم ذاك الصنف الفريد الذي وجده, ولن يفهم ذلك الحجر داخل النص إلا من اختبر صراعات مؤلفه خارج النص, ومن هنا يختار الشاعر شعبه! غير أنها ليست دائماً مملكة صالحة للدخول, فالأدب يبني العلاقة مع المتلقي فإذا استخدم المؤلف رموزه المرتبكة هدم كل احتمال لجسور تلك العلاقة فيخسر لغة التفاعل والانفعال من المتلقي والتي هي شرط لوجود المؤلف أصلاً في عالم الفن الأدبي والتي يطلبها كذلك وإلا لم يدخل مزاج الفن واختص بذلك الشعور لنفسه!
فاللغة كما تقول نازك الملائكة وظيفية تفاعلية «فكل من الكاتب والقارئ والمتكلم والسامع يؤثر ويتأثر بعملية التخاطب, على أن نفسية المنشئ أو الكاتب أو المتكلم هي من يؤثر أولاً, والكلام الفني يثير في المتلقي ما لا يثيره نص آخر». فالمفردة في لغة الشعر لا تستقل بدلالتها العفوية بل تحمل طبقات من المعاني التي لا تعطي مؤداها ذلك لو كانت في الكلام العادي, لأن الرمز يمنح المؤلف ذخيرة دلالية ويقوي مقاومته النصية, فهو انتصاره الذي يمنعه من الإصغاء للصوت التقليدي فيصنع صورته من خلاله. وحين يأخذ المؤلف الرمز فإنه يأخذه على محمل الجد, ويضعه في مواجهة الواقع الثقافي المحيط به, وهو يلجأ إلى ذلك كي يؤول نفسه, ويختاره كي يمحو المسافة بين النفسي والواقعي وربما كي يحفر مخبأه, فالرمز طريقة المؤلف للاختباء من عين التحقيق والمساءلات الأدبية وطريقته كذلك في تحويل العادي إلى أدبي, والواقعي إلى خيالي. إنه يحتمي به كي يكون هو الأصل الذي تؤول إليه الأشياء وهو الفرع الذي تناسل عن كل الأشياء.
ولكن الرمز مادة ملغومة, قد يستخدمها الشاعر كي تحميه فتقتل مادة شاعريته وقوة تأثر المتلقي به, فحين يضمر الرمز عيوب النسقية مرة, فقد يوقع المؤلف فيها أخرى ويكون هو عيباً خُلقياً يصنعه المؤلف في نصه ولا يمكن معالجته إلا باستئصاله كي يعيد للنص توازنه ويعيد للمتلقي ثقته في التواصل, لأن المؤلف حين يختار الرمزية التي لا تخلق ألفة أدبية فهو يخلق هوة أو تحولاً في ذهنية القارئ ويفسد انفعاله بنصه, فهو يضع حواجز لا يمكن للقارئ أن يتجاوزها إلا بيد منه فيشرح له مقاصده ومآلات مشاعره. فأين تكمن فنية الفن إذا انفصلت العلاقة الضرورية بين المؤلف والمتلقي والتي هي عصب النص ومادة سيرورته!
ربما على الشاعر أن يخلق رمزيته المستقلة على أن استخدامه إياها ليس اعتباطياً وليست لعبة سهلة يمكن للجميع أن يلعبها, فلابد أن ينشئ العلاقة الوثيقة والمقنعة للمتلقي, حتى يتحول من الرمز الجمعي المتفق عليه إلى الرمز الشخصي الذي يختبئ فيه, ويتحول من الصور الرمزية المبتذلة والمكررة إلى اللغة الرمزية المشعة؛ ومن خلال ذلك يمكنه أن يبني مملكته ويختار لها شعبه!
** **
- أمل آل شبلان