كل شيء له إيجابيات وسلبيات، وكل ضراء تصيبنا في حياتنا الدنيا يكمن فيها جانب من الخير أيضاً، والأمر يتعين على وجهة نظرنا تماماً، فلو نظرنا إلى البلايا والرزايا النازلة من جهة الشر فقط، فإنها تنتصر علينا حتماً، ونلقى أنفسنا أمامها مهزومين مقهورين وخاسرين، ولا نحصد منها إلا الشعور بالإحباط والقلق والضياع، ولكننا لو تعاملنا معها على أن الخير سيتبعها عاجلاً أو آجلاً، فإننا ننتصر نحن عليها نهائياً، ونشعر بنوع من الفتح والسعادة والانتصار عقب إدبارها. فلا بد أن نتيمن ونتفاءل، ونستبشر بها الخير، بدل أن نتشاءم ونتطير بها، وننتظر منها الشر.
ولما داهمتنا جائحة كورونا في الأيام الأخيرة، غشي كثيراً من الناس نوع من الخوف والهلع وأصابهم شيء من التجهم والاكفهرار، وأظلمت الدينا في عيونهم، بينما تمالك كثير منهم أنفسَهم، وصرفوا عنايتهم إلى استغلال هذه الفرصة لتفجير مواهبهم الكامنة، وإظهار قدراتهم وملكاتهم الخفية. واستلفتتْ انتباهي بهذا الشأن ظاهرتان إيجابيتان لاحظتُ إحداهما في وسائل التواصل الاجتماعي، والأخرى في بيتي وأسرتي.
أعتقد أن وباء كورونا قد علمنا كثيراً في شؤون حياتنا، فقد علمنا كيف نحسن استعمال وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي لأهداف وأغراض لم يكن يستعملها لها كثير منا سابقاً. فلما وُضعت البلدان تحت الحجر المنزلي وأغلقت المكاتب والمنشآت، لجأ الناس إلى استخدام تلك الوسائل والمنصات لكي لا تتجفف مجاري الحياة ولا تتعطل الدنيا بشكل تام، فاستمر عن طريقها إلقاء الدروس المدرسية والمحاضرات الجامعية وعقد الاجتماعات الرسمية وإقامة الدورات العلمية وتنظيم الندوات والمؤتمرات الأكاديمية Webinar، وكل ذلك بشكل تفاعلي. وتعلمنا في هذه الأثناء استعمال وسائل وتطبيقات لم يكن لنا بها عهد، فالحقيقة أن كورونا وفر لنا فرصة نادرة لاكتساب خبرات جديدة في حياتنا العلمية والعملية، وأنه قد قرَّبنا عدة خطوات من آخر المستجدات في مجال تقنية المعلومات.
والظاهرة الأخرى التي أشعرتْني بنوع من الغبطة والسرور لاحظتها داخل بيتي وأسرتي، وهي في الحقيقة ليست ظاهرة خاصة ببيتي وأسرتي، بل لا بد أن تكون قد ظهرت في كثير من البيوت والأسر. كنت أعرف -والحق يقال- أن زوجتي امرأة بارعة وذكية في كل عمل منزلي تقوم به، وكم أنا سعيد بذلك. ولكنني لم أكن أعرف أنها بجانب كونها مدبرة بارعة للشؤون المنزلية كانت فنانة متميزة موهوبة ومبتكرة أيضاً. فلا أنسى ذلك اليوم الذي أحضرتُ فيه لابني الصغير الذي يدرس في الصف الثاني بعض الألوان المائية والفرش والأوراق ليعالج ضجره وتبرمه بممارسة فن الرسم بعد أن حاصرنا هذا الوباء الجديد داخل أسوار بيوتنا. فما أن رأت زوجتي تلك الأدوات حتى اشتاقت نفسها هي الأخرى لتجلس مع الابن قليلاً ويفرّج عن نفسها المللَ. ويا للعجب! كانت النتيجة مذهلة، فسرعان ما انكشفتْ أمامي موهبتها الفنية المدهشة. فحمدت ربي على أن هذا الفيروس -حفظنا الله جميعاً من شره- قد عرَّفني على فنانة موجودة في حياتي لم أكن أتعرف عليها بعدُ مع أنها كانت موجودة بجانبي منذ وقت طويل.
وهذا الفكر الإيجابي هو الذي علمنا الله عز وجل في قوله: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216) سورة البقرة، وقد غرسه الرسول عليه الصلاة والسلام في أنفسنا حين قال: (عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).