الجزيرة الثقافية - محمد هليل الرويلي:
أحرقته أمه منتصف الليل! (شمس المعارف), أتعس كتاب اقتناه أدخله بيته عصرًا, وفي عام 1967م اشترى أول كتاب «سيرة بطل», بريالين (قيمة عشر جرائد) يوم كانت الصحيفة اليومية بأربعة قروش, لمؤلفه المرحوم محمد حسين زيدان - حينها- كان ضيفنا القاص والناشر محمد ربيع الغامدي في الثاني المتوسط. من يومها لم يواجه صعوبة في اقتناء الكتب إلا قبل الوظيفة - لضيق ذات اليد - ما عدا ذلك فهو لا يبحث عن الممنوع ولا يغامر من أجله, إذ عنده من المتاح ما يجيب على أسئلته وما يغنيه عن تسلق الأسوار - كما وصف - واليوم بعد أن شابت عوارضه يصف أيضًا: أكلت الكتب معي وشربت حتى مازجت لحمي ودمي، أجمل أحلامي ما رأيت الكتب فيها مكدسة على قارعة الطريق، أفرح بها وإن كنت أدرك (وأنا في الحلم) أنه مجرد حلم. ما أقدمت على سرقة إلا سرقة كتاب، وما تنازلت عن مصروف المدرسة إلا من أجل الكتاب. ما هربت من المدرسة إلا إلى مكتبة مسجد عبد الله بن العباس, ومعي صديق عمري د. سعد الغامدي, وما سلكت طريقًا بلا ملل إلا طريقًا يأخذني إلى مكتبه. ما خاصمت عزيزًا إلا من أجل كتاب، وما بخلت بشيء إلا بالكتاب، ما جافيت ولا صافيت إلا من أجل الكتاب، وما تركت لمن يرثني من شيء إلا الكتاب.
«أحلام بِسبِسة»
يقول «الغامدي» أول كتاب قرأته «الكبائر» للإمام الذهبي ويقال بل هو منسوب إليه، قرأته أول عهدي بالقراءة في بواكير المرحلة الابتدائية. ربما كانت طريقته في عرض مادته هي الأكثر تشويقًا بين كثير من الكتب التي طالعتها، يأتي بالكبيرة ثم يورد موضعها من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي ثم يورد شعرًا يناسبها ثم حكاية تتعلق بها ثم موعظة رقيقة تتصعّد لها الأفئدة.
وكان أول كتاب استعرته قصة جميلة اسمها «أحلام بسبسة» من قصص الكاتب العظيم كامل كيلاني الذي رافقتني قصصه منذ ذلك اليوم إلى أن شابت العوارض مني، استعرته من مكتبة مدرستي الأولى المدرسة السعودية بقرية الحبشي بالباحة في عام 1961م, وهي فترة مبكرة جدًا لكنها ذهبية لي ولجيلي..
اشترى حملة «الهايلوكس كتب»
وحول تجربة التأليف, أوضح القاص والناشر محمد ربيع الغامدي: أول كتاب ألفّته في عام 1986م, مجموعة قصصية جمعت فيها ما نشرته في بعض الصحف, وفي مجلة الباحة التي كنت أشرف على ملفّها الثقافي «ملف مواسم» وقصة فازت بجائزة الإذاعة السعودية. ما كنت أنوي ذلك لولا أن أصر زميل لي فأعطيته المجموعة وكانت بخط اليد - لم أستأنس الآلة الكاتبة بعد - بعد أيام عاد ومعه عشرون «كرتونا» كبيرًا فيها من النسخ ألفان، أحرجتني هذه الكمية من أبي ومن أهل القرية عمومًا فالحالة يعلم بها الله (قالوا: ما شبع نخالة واشترى حملة الهايلوكس كتب!) إضافة إلى الإحراج صدمتني الطباعة. إذ جاءت القصص متداخلة بها من الأغلاط ما لا يقبله حتى الجاهل! ولكن ثالثة الأثافي في الموقف أن زميلي ذاك - من باب الاحترام - طلب من المطبعة أن تكتب: تأليف سعادة الأستاذ محمد ربيع! لذلك اتخذت قراري بحرقها مستغلاً سفر ذلك الزميل الطيب فأحرقتها وأسدلت عليها ستائر النسيان إلى أن سألني عنها منذ أربع سنين مضت, فقلت له: نفذت، نفذت بالكامل. هزّ رأسه وخرج, ليعود ومعه عشرة كراتين فيها ألف نسخة قد احتفظ بها في بيته ربع قرن؟! صارحته عندها بحقيقة الأمر وأقنعته بحرقها, بينما أقنعني بحفظ عشرين نسخة للذكرى.
عدتُ إلى الدُّكان أشتم الرأسمالية والرأسماليين
وكشف «الغامدي» في معرض إجابة حول بيع الكتب تحت وطأة الحاجة: تعرضت له مرتين، مرة عندما جمعت ما عندي من كتب ومن مجلات 1969م, جمعتها في كرتون سلك (السلك هو سلك الجلي وكان كرتونه أكبر الكراتين قبل أن نستأنس الثلاجات التي وفّرت لنا أكبر الكراتين الفارغة على الإطلاق) واستأجرتُ لها عربية كارو (تجرها الخيول) وانطلقت بها إلى السيد - السيد هذا بائع كتب مستعملة في مدينة الطائف وهو حكاية قائمة بذاتها -رحمه الله- لكنه رفض شراءها لغلبة المجلات عليها، وتحت إلحاحي وافق على دفع أجرة العربة ثمنًا للكتب بعد أن قدرت لها ثلاثين، سلمته الكتب واستلم صاحب العربية أجرته وعدت إلى دُكّان أبي أشتم الرأسمالية والرأسماليين!. والمرة الثانية في منتصف دراستي الجامعية, لم تكن بأحسن حال من صفقة السيد عفا الله عنه.
أنا لا أحتفظ بطبعات متعددة إلا لكتب السير الشعبية العربية: عنترة بن شداد، الأميرة ذات الهمة، السيَر الهلالية، الأمير حمزة، الظاهر بيبرس، ألف ليلة وليلة الخ، ذلك أن الطبعات القديمة منها تحمل رائحة مختلفة وملمسًا مختلفًا ومشهدًا مختلفًا وعلى صفحاتها تركنا أعيننا أنا وأبي، بينما تأتي الطبعات الجديدة منها ملّونة متماسكة صقيلة. كما لم أجلد إلا المجلات ذات الأهمية، جلدت مجلات العربي من عددها الأول حتى العدد 303، الوعي الإسلامي، الجيل، الإذاعة السعودية، اليمن الجديد، الخرطوم، الدفاع السعودية، طبيبك، المختار، وكان التجليد أيامها قليل التكلفة.