(حتماً سأكون) رواية صادرة بطبعتها الثانية عام 2019م عن (الدار العربية للعلوم ناشرون) ببيروت, للكاتب السعودي/ حامد أحمد الشريف, علماً بأن الطبعة الأولى لهذه الرواية كانت قبل الثانية بعام واحد تقريباً, أي عام 2018م.
تقع الرواية في أكثر من 400 صفحة من القطع العادي , وتدور أحداثها في (البيئة الحجازية القديمة) لمدينة (ينبع) على ساحل البحر الأحمر.
ويغلب على الرواية الطابع البوليسي, وذلك لتناولها جريمة قتل غامضة, وقعت في تلك البيئة, منذ ما يزيد على مائة عام, أي في آخر عهد الدولة العثمانية, وترنحها للسقوط, وبداية انهيار حكم (الأتراك) العثمانيين في المنطقة, وقبيل قيام المملكة العربية السعودية بسنوات قلائل.
وهذه (الفجوة التاريخية) الحرجة, الممتدة بين كيان دولتين: أولاهما ذات سلطان زائل قديم (العثمانية) والأخرى ذات السلطان القائم الجديد (المملكة العربية السعودية) كان من الطبيعي أن يختل فيها الأمن في منطقة الحدث, وبين أفرادها, سواء في الحجاز, أو في غيرها من مناطق (شبه الجزيرة العربية) قبل قيام الحكم السعودي المجيد, وإرساء قواعده.
وهذا الأمر كان من شأنه أن يربك الوضع الأمني خاصة بالنسبة لمجتمع قبلي يتصارع أفراده -آنذاك- فيما بينهم للإمساك بزمام القوة, وتسود فيه (سلطة القبيلة) ويكثر فيه السلب والنهب, بحيث يفتك كبيره بصغيره, وقويه بضعيفه دون هوادة!
خلال هذه الظروف تنشأ أحداث هذه الرواية, إذ ساهمت هذه الفترة المضطربة أمنياً في تعقيد قضية (مقتل العم محمد السماك) في ظروف وملابسات غامضة, كما تطرق إليها الكاتب وأبحر بنا معه عبر تفاصيل كثيرة وعلى امتداد صفحات الرواية حول قصة ذلك الرجل العصامي المكافح والمثابر الذي كان قد غادر أهله وذهب في رحلة غوص بحرية, يرافقه طاقم من أصدقائه وأبناء بلدته على ظهر إحدى السفن.
وكانت النتيجة أن اختفى (السماك) من طاقم السفينة, ذات ليلة حالكة, اختلط سوادها بأمواج البحر المتلاطمة.
ولما عادت السفينة الى (ينبع) بطاقمها بعد رحلتها تلك, التي استمرت أسابيع طويلة في أعماق البحر, وعاد من كانوا على ظهرها لأهليهم وذويهم اُكْتُشِفَ أن (محمد السماك) قد فقد ولم يعد مع العائدين. لكن (السماك) رغم ذلك ظل (الحاضر الغائب) الذي ظلت قصة اختفائه فجأة لغزاً محيراً, طيلة امتداد صفحات الرواية, ولم يتم الكشف عن حقيقة مقتله إلا في الصفحات الأخيرة منها!
حاضر في قلب زوجته وأولاده وأقاربه الذين كانوا ينتظرون عودته بعد رحلة (الغوص) المشؤومة تلك لأسابيع طويلة بفارغ الصبر, لكنه ظل غائباً بشخصيته المفخخة بـ(تراجيديا) معقدة بائسة حقاً, استمرت فترة طويلة من الزمن, بحيث ظهر (محمد السماك) للقارئ وكأنه الشخص الوحيد من بين شخصيات الرواية (الحاضر الغائب) معاً في آن واحد!
وأعتقد أن هذا (التعتيم) على شخصية (السماك) كان أمراً متعمداً من قبل الكاتب, منذ بداية الرواية, كي يشبع الحدث الروائي بتساؤلات وعلامات استفهام كثيرة حول هذه الشخصية, إمعاناً منه بتحقيق عنصر الإثارة والتشويق, وهو عنصر مهم جداً في (بناء القصص البوليسي) وأحد أبرز سماته!
ولذلك فقد استغرق الحدث الروائي وتسلسله زمناً طويلاً, حتى اتسمت معالجته بالبطء حيناً, وبالتراخي والتوتر حينا آخر, مما أدى -بدوره- إلى شحن ذهن القارئ بالتوتر والتوجس والحماس لمعرفة نتيجة قصة اختفاء (العم محمد السماك) ونهايتها!.. هل مات ميتة طبيعية على ظهر السفينة, فألقى رفاقه البحارة جثته في البحر, كما كان البحارة القدامى يتخلصون من موتاهم؟ هل غاص للبحث عن اللؤلؤ, فغرق في عمق البحر؟ هل قام أحدهم بقتله غيلة على ظهر السفينة في غفلة من طاقمها, فقذف بجثته في البحر؟ أم ماذا؟!
دعوني أقف عند هذا الحد كي لا أفسد على القراء متعة اكتشاف جماليات السرد البوليسي في هذه الرواية لمن يريدون أن يقرأوها بعدي, لا أريد أن (أحرقها) كما يقول الجمهور!!
وفي ختام حديثي عن هذه الرواية أقول إنها غنية جداً بجماليات كثيرة: تاريخية واجتماعية وتراثية, وهي تصف لنا أبرز مظاهر الحياة الاجتماعية لأهل سواحل البحر الأحمر قديماً من عادات وتقاليد وتراث, فضلاً عن كونها إضافة جديدة للرواية البوليسية السعودية, التي ذكر الدكتور/ أحمد حسين عسيري في كتابه (الرواية البوليسية السعودية) أن مكتباتنا العربية تفتقر إليها افتقاراً شديداً, مقارنة بغيرها من مجالات الرواية الأخرى, كالرواية الاجتماعية والسياسية والرومانسية, وروايات الحروب والمغامرات... إلخ.
** **
عرض وتحليل - حمد حميد الرشيدي