حلّلنا في المقالة السابقة اللغة المتضاربة والمتناقضة في بيعة الردة لداعش، والتي بُنيت على تقرير كفر الدولة السعودية، تقرير يخلو من الأدلة أو المقدمات المنطقية لأي ادعاء، ولا يحمل غير الشتم والأيمان، والتكرار الذي يُعدّ أحياناًً سمة من سمات التضليل والخداع (deception)، ومظهرًا من المظاهر اللغوية التي يستخدمها المضلِّلون (انظر مثلاً دون آرشر Dawn Archer, 2019)، ثم القيد الذي ربطوه على أعناقهم في خضوع تام لداعش. ونشير هنا أيضاً إلى التناقض الصارخ في قولهم وزعمهم الكاذب منطقًا فضلاً عن الواقع: «ومكّنوا لأعداء الله من اليهود والنصارى والرافضة والمجوس وجعلوا لهم السيادة والريادة»، فهل مطلِق هذه العبارة لا يعي ما يصدر من فمه من تلوث لغوي منطقي؟! إذ نعلم أن المملكة تحارب إيران والحوثيين في اليمن (معاقل الرفض والمجوسية)، كما تقف رأس الدفاع الأول في قضية فلسطين ضد اليهود الصهاينة، وهناك بوادر حرب بين العالم وإيران، فكيف يحدث أن تجد يهودًا ونصارى ورافضة ومجوسًا متفقين حتى تمنحهم سيادة أو ريادة؟!! فكيف يمكن للمملكة التي لها مصالحها ومبادئها المتناقضة مع أغلب هذه الفرق المعتدية أن تجد اتفاقًا يجمعها معهم؟!
الآن سنتحدث عما يسمى في اللسانيات التطبيقية المشهد اللغوي، والذي يحلّل النظام السيميائي للإشارات تحليلاً كميًا أو يقرنه بالكيفي بجانب التحليل الكمي. وهو ما تكشف عنه الصور المرفقة. وقد يُستخدم للتحليل اللغوي اللساني وقد يستخدم لغيره، وسأستخدمه هنا لتحليل مظاهر التدين.
ففي الصورة الأولى تظهر الأسماء التالية:
- أنس بن مالك مرتين
- الأميرة نورة بنت عبدالرحمن
- الملك عبدالعزيز
- الملك فهد
الذي يلفت نظر أي باحث أن (أنس بن مالك) في كلتا المرتين ذُكرت بعده العبارة الدينية (رضي الله عنه)، وهذا يؤكد الالتزام الديني حتى في الإشارات التي تنزع إلى الاختصار، وليس هذا فحسب؛ بل إن أسماء ملكين من ملوك هذه البلاد وأحدهما المؤسس لم يُوصفا بأي وصف ديني كما هو الأمر مع الصحابي الجليل! وكذلك الأميرة نورة، على الرغم من المكانة الخاصة في نفوس كل السعوديين لهؤلاء الأعلام خاصة المؤسس الذي يعود له ولرجاله وأبنائه من بعده -بعد الله وتوفيقه - الفضل لنشر الدين الإسلامي في أصقاع الأرض حالياً، فهل يمكن لأي عاقل أن يصدق الهرطقات التي ترمي هذه الدولة بحرب الإسلام والمسلمين؟!!
ننتقل الآن إلى الصورة الثانية التي يظهر فيها اسم عثمان بن عفان، في هذه المرة يقترن اسمه بأمرين:
(أمير المؤمنين) و(رضي الله عنه)، فهل بعد هذه الأدلة الواضحة للعيان يمكن أن يصدق من لديه أدنى تفكير منطقي مزاعم الإرهابيين وأتباعهم؟! حتى اللقب الديني (أمير المؤمنين) لم ينسبه لنفسه أي من حكام هذه البلاد ولا أبنائها مع العلم أن هناك من حكام البلاد الإسلامية من نسبه إلى نفسه!
فهل نصدق ما تهرطق به جهالات داعش والمتطرفين أم نصدق الواقع الذي نراه بين أعيننا!
وإذا انتقلنا إلى الصورة الثالثة وهي صورة تنتشر في كل مكان لاحظنا لوحة تدلنا على مكان المسجد، فصارت الإرشادات إلى دور العبادة من الأهمية بمكان لدى هذه البلاد حتى صارت تزاحم الإرشادات الضرورية الأخرى؛ بل إن هناك إرشادات بوجود مصلى للنساء، وأخرى تحمل عبارات (صل على النبي) و(سبحان الله وبحمده)... فهل يمكن أن يدعي أي شخص أن هذه الدولة تحارب الإسلام وأهله وهي تبالغ في المظاهر الدينية حتى غير اللازمة ولا الواجبة؟!
بل إن الأمر يبلغ مداه في تدين الدولة حين يلاحظ أي منصف ملاحظة ذكرتها في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي أنه يندر أن ترى في بلدنا المبارك مسجدًا مستأجرًا؛ بينما المرافق الحكومية يمكن أن تراها مستأجرة، حتى الأماكن الحيوية مثل المدرسة والمستوصف والمحكمة والشرطة...
فمن شدة التمسك الديني لدى هذه الدولة المباركة حكومة وشعبًا أن أي مراقب يخرج بالملاحظة السابقة وهي البدء في أي مشروع سكني بالمسجد حتى في الأحياء التي لم تكتمل أو لتوها بدأت، ويكون المسجد غير مستأجر بل يُشيّد بجهود الدولة وأبنائها. وقد يقول قائل: إن بعضها أموال متبرعين، فنقول: هذا صحيح ويدل على تأصل التدين لدى الشعب والحكومة، ولو كانت الحكومة لا تدعم هذا التوجه وبقوة لرأينا ما نراه في الدول العربية الأخرى من شبه اختفاء للمساجد المشيَّدة في كل مربع سكني، ولرأينا بعض المصليات مستأجرة. كما أن الثورة السكانية والاقتصادية التي تشهدها البلاد قد تجبر الحكومة على استئجار بعض المرافق الحكومية على أنها لا تبلغ شيئاً بمقارنتها بعدد المساجد، في مقابل عدم قبول استئجار مسجد في حي سكني. فأعداد المساجد - ولله الحمد - من الكثرة بحيث لا أعتقد أنه ينافسها غير المدارس، ومع ذلك فالمساجد لا تُستأجر بل تُبنى، بينما قد تضطر الحكومة لاستئجار مرفق حكومي مع ندرة هذه المرافق مقارنة بالمساجد! فهل كان ذلك سيحدث لو صدقنا الأغاليط اللغوية حول ما يدعيه المارقون الإرهابيون من أن هذه الدولة «بدلوا شرع الله وحاربوا الإسلام والمسلمين ومكنوا لأعداء الله من اليهود والنصارى والرافضة والمجوس وجعلوا لهم السيادة والريادة في بلاد الحرمين»؟! لقد تمنيت في وسائل التواصل الاجتماعي أن تقوم الوزارات المختصة بشؤون المساجد بإعلان فواتير الخدمات التي تدفعها الدولة (من كهرباء ومياه ومصاريف مستمرة وتشغيل) للمساجد ليس من باب المنة فليس لأحد من ذلك سوى الشرف بخدمة بيوت الله؛ لكن لعلها تكون رادعًا للسذج من تصديق المجرمين والإرهابيين.
ولو نظرنا إلى مدلول لقب ملوك هذه البلاد (المدلول اللغوي) وهو «خادم الحرمين الشريفين» فكلمة خادم في اللغة كما نعرف تعني الخدمة، وتشرّف حكام هذه البلاد بهذا اللقب دليل على تأصل الدين لديهم في أعمق صوره، وإلا فما الذي يمنعهم من التسمية بالأسماء ذات المدلول الفخم لغويًا مثل: صاحب الجلالة، فخامة، سمو، الخليفة؟! لا أعتقد أن هناك ما يمنع سوى الفطرة التي نشأ عليها الحكام هنا والتي لا يستوعبها البعيد ولا القريب أحيانًا، وأتمنى لو كانت الترجمة الإنجليزية للفظة خادم الحرمين الشريفين «Custodian of the Holy Mosques» مشتملة على الإيحاءات التي تحملها لفظة خادم هنا والتي تعبر عنها «servant». فحكام هذه البلاد يرون خدمة الحرمين الشريفين وزوارهما شرفًا لهم ورفعة مع ما تحمله الكلمة من تذلل وخضوع يجده قادة هذه البلاد خضوعًا وتذللاً للجبار سبحانه وتعالى، ويرونه قربة إلى الله. طبعًا هذه الدلائل الواضحة في أبسط صورها لن يكون لها صدى لدى من أعمى الكره والحقد والجهل قلبه فحجب عقله عن الوعي.
الآن نعود ونسأل الدواعش والإرهابيين والمتطرفين: أين (الكفر) (البواح) (الذي لديكم عليه من الله برهان)؟! الذي جعلكم تخلعون بيعتكم لإمام المسلمين خادم الحرمين الشريفين؟!
فهذه الصفات الثلاث متلازمة، لا يكفي وجود أحدها، وهو ما ألزمتم به أنفسكم لداعش. فلا بد من كفر أولاً، ويكون هذا الكفر بواحًا ثانيًا، أي كفر صريح ظاهر مجاهَر به بيّن لا يخفى ولا يُخفى، ثم يكون لديكم على هذا الكفر البواح من الله برهان فيه ثالثًا!! أين تجدون هذه المظاهر في بلد مثل المملكة العربية السعودية هذا البلد المبارك؟! اتقوا الله في أنفسكم وراجعوا ما تتفوهون به!
إن هذا النوع من التفكير المحلل هنا للجماعات الإرهابية هو ما أشار إليه فريدكين (Friedkin, 2005) فيما يتعلق بسعي المجموعات الإرهابية إلى حرمان أفرادها من العقلية المستقلة التي تفكر بها لمصلحة نفسها؛ بل يكون لهم عقل القطيع، ولهذا فتسعى من حين انضمامهم إليها بتجريدهم من حاجاتهم الشخصية وفصلهم عن عوائلهم وأصدقائهم ليستطيعوا التصرف فيهم كدمى لا كبشر، أما الأجندات السياسية للجماعة الإرهابية ففي رأيي لا تهم الإرهابي لأنه يريد الموت بأي طريقة ولا يهمه تفاصيل السبب ووجاهته.
قاتل الله الجهل والكيد والانتقام وعبادة الهوى والشيطان! أعتقد أنه يمكن لنا أن نقول إن المشهد اللغوي في بلادنا المباركة يسهم وبقوة في محاربة التطرف والإرهاب وإسقاط تهمه الضالة المضلة.
** **
- د. صالح بن فهد العصيمي