حاوره - حمد الدريهم:
منذ سبعينيات القرن الماضي ولا يزال يوثّقُ بصريًّا الإرث التاريخي للثقافة العربية عبر كتابته العديد من الأعمال التاريخية الدرامية التلفزيونية، مثل: شجرة الدرّ، الدرب الطويل، ثلاثية الأندلس، التغريبة الفلسطينية، ومسلسل «عمر»، وغيرها من الأعمال. كما أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات، منها: قصائد في زمن الفتح (ديوان شعر)، وشم على ذراع خضرة (ديوان شعر). كما صدر له مؤخرًا: «الشاهد المشهود: سيرة ومراجعات فكرية».
المجلة الثقافية التقت الشاعر والأكاديمي وكاتب الدراما التاريخية الدكتور وليد سيف؛ لنُحاوره حول مؤلفاته وكتاباته الدرامية التاريخية، إضافة إلى العديد من القضايا الثقافية الراهنة.. فإليكم الحوار:
* بداية، أود أن أسألكم عن كتابكم المعنون بـ«الشاهد المشهود» الصادر عن دار الأهلية بالأردن؛ مَن يتأمل سطوره سيلحظُ شجاعةً لافتة في تناول مراحل مختلفة من حياتِكم التي شهدت الكثير من الأحداث.. هل الشجاعة شرط لكتابة السيرة؟ وكيف تصف استقبال القارئ لتلكم الشجاعة، ولاسيما ممن جايلَكُم في تلكم الحقب الزمنية المختلفة؟ وهل بقي شيء لم يُذكر في تلكم السيرة؟
نعم، الشجاعة شرط في كتابة السيرة، بل في كل أشكال الكتابة.
ولكن الخلاف في معنى الشجاعة وتعريفها. وقد أوضحتُ معناها عندي في مقدمة الكتاب؛ إذ لا ينبغي أن تختزل في كشف الخبايا والخفايا الخاصة، ولاسيما ذاكرة الجسد في متاهاته، كما درج بعض كاتبي السيرة. وإنما الشجاعة في مقاومة التيّار وإغراءات الأمان في ظل القطيع، وفي الامتناع عن الشرب من نهر الجنون حين يتكاثر الشاربون، وتصيرُ أوهامهُم وهذاؤهم هي القاعدة، وفي تفكيك الأساطير التي تؤسّسها الطوائف المهنية والثقافية والسياسية عن نفسها، وفي تفضيل مغارم العقل على مغانم الجهل. والشجاعة أخيرًا هي أن تكون ذاتك، وتشيد روايتك الخاصة بعيداً عن الإملاءات الخارجية.
وأحسبُ أن قارئ سيرتي ومراجعاتي الفكرية في «الشاهد المشهود» قد تفاعلَ معها تفاعلاً خاصًّا على المستويين الفكري والوجداني، واسترجعَ بها أبناء جيلي مشاهد من العالم الذي انتظمت سيرنا في سيرته، وكان شاهدًا علينا بقدرِ ما كنّا شهداء عليه، بكل أفراحه وأتراحه وأحلامه المنكسرة.. بل أرجو أن يكون السرد والمراجعة والتحليل قد أعانت كلها على إعادة تشكيل صورة الماضي في الوعي والوجدان.
فالماضي ليس قصة ثابتة ساكنة، وبقدر ما يسهمُ الماضي في تشكيل الحاضر فإن وعي الحاضر يعيد كتابة الماضي ورسم صورته.
هل بقي شيء لم يُذكر في تلكم السيرة؟! الجواب: نعم، لا ريب. ولكن هذا شأن كل المؤلفات الأدبية والفكرية والعلمية. ينقضي عمر أحدنا ولا يزال في نفسه شيء مما كتب فيه! والسيرة على نحو خاص صورة حياة، والحياة أوسعُ من أن تحيط بها العبارة.
* مَن يتأمّل خارطة سيرتكم في الكتابة الدرامية للمسلسلات التاريخية التي تناولت العديد من الحقب المختلفة والشخصيات التاريخية يجد أن ثلاثيّة الأندلس هي الأكثر نجاحًا. هل الطبيعة الانفتاحية في تلكم الحقبة الزمنية ساعدت على تحرر النص المكتوب، أم أنه لا علاقة بينهما، وهناك أسباب أخرى؟
لا أستطيعُ المفاضلة بين أعمالي، أو الجزم بأيها أكثرُ نجاحاً. وقد رأيتُ الناس يختلفون في المفاضلة بينها، كل حسب ذائقته الفنية والأدبية، ومواقفه الفكرية، وتجاربه الإنسانية، وحتى ميوله السياسية. فشطرٌ من المشاهدين يقدّمون مسلسل «صلاح الدين» لارتباطه بنصر حطين وتحرير بيت المقدس، ولاسيّما في ظل الظروف الراهنة. وهو من جهة أخرى أقربُ إلى ذوي النزعة المحافظة. أما مسلسل «التغريبة الفلسطينية» فقد تلقاه الكثيرون بوصفه أهم سردية دراميّة ملحمية للمأساة الفلسطينية من خلال معالجة إنسانية لشخصيّات من لحم ودم، تماهى معها الفلسطينيون بصفة خاصة، ووجدوا فيها صورة من أنفسهم وآبائهم وأجدادهم ومعاناتهم. أما مسلسل «عمر» فكان من الطبيعي أن يثير ضجة كبيرة بين منكر ومؤيد لتجسيد الصحابة. ولكن الكثير ممن أنكروا قبل مشاهدته غيّروا مواقفهم بعد المشاهدة، وتأثروا به تأثرًا كبيرًا. وفضلاً عن الحضور الوجداني العظيم لعصر الرسالة والصحابة في الوجدان الجمعي الإسلامي، فإن العمل لم يكتفِ برصد الوقائع التاريخية الرئيسة، وإنما عالج العلاقات الإنسانية في المجتمع، وفي داخل الأسرة الواحدة، والتغييرات الجوهرية التي أحدثتها الدعوة والرسالة العظيمة في المجتمع والفرد، ومنظومة القيم القديمة، والعوامل الموضوعية التي تدخلت في مواقف الناس من الدعوة إقبالاً أو إدباراً. وحرصتُ في المعالجة السردية الدرامية على تجاوز الصور النمطية التي رسختها أعمال سابقة لأبطال الدعوة أو خصومها سواء. وقد تفاعل المشاهدون بصورة خاصة مع لغة الحوار التي حاكت فصاحة العرب في ذلك الزمان؛ وهو ما أضفى مصداقية على السرد.
وعلى كل حال، فإن أعمالي التاريخية ليست مجرد سرد تسجيلي للوقائع، وإنما هي أعمال أدبية درامية مرئية، تتوسل المادة التاريخية لمخاطبة العقل والوجدان والذائقة والشرط الإنساني المتجاوز للظرفي الخاص، دون إخلال بالنسق التاريخي، أو تحريف لمفاصله الراجحة؛ ولذلك فإن خياراتي للموضوعات تُبنى على ما توفره المادة التاريخية من إمكانيات لمعالجات درامية وأدبية وإنسانية مؤثرة. فقد تكون شخصية تاريخية ما عظيمة بمآثرها ومناقبها، ولكنها مع ذلك قد لا تصلح في تقديري للمعالجة الدرامية؛ لأنها لا تنطوي على عناصر الصراع والتطور والتحوّل التي يقتضيها السرد الحكائي والدرامي. وتلكم هي المعايير التي وجهت خياراتي في الأعمال الأندلسية وسواها.
* في عام 1976م ظهر فيلم الرسالة للعقاد، وصاحبه الكثير من الجدل، وفي عام 2012م عُرض مسلسل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأيضا صاحبه الكثير من الجدل، وإن كان أقلّ حدة. برأيكم، لماذا ظلت هذه الحساسية المفرطة - بالرغم من تباعد الفترتين - تجاه تمثيل عصر صدر الإسلام؟ وما رؤيتكم لحل تلك الإشكالية؟
لا أحسبُ أن الجدل حول تجسيد الصحابة سيتوقف نهائيًّا في أي وقت لما يتمتع به الصحابة من مكانة روحية ودينية سامية في الوجدان الإسلامي، تختلط بقداسة الدين نفسه. فحتى الذين لا يتسرعون في التحريم فإن شطرًا منهم يرى أن الصور الذهنية التي ترتسم في المخيال الإسلامي عن الصحابة تبقى أسمى من أي تشخيص بصريّ مهما يكن أمينًا ومتقنًا. كما أن التشخيص يثبت صورة واحدة تصادر على التخيّل الفردي الذاتي. ويخشى البعض أن يجرّ ذلك إلى ما هو أعظم حساسيةً وأدعى للتحفظ والمخاوف. وأنا أتفهّم هذه المخاوف والمحاذير، بل أشارك الآخرين في بعضها. ولا يضرُّ - في رأيي - أن يبقى التدافع في الرأي قائمًا؛ فهو سنة مجتمعية، إلّا أن يخرج من مساحة التدافع إلى التهمة والوصم والإقصاء والتكفير والتفسيق في مسألة لا أراها من قطعيات الدين. والمعيار الحاكم هنا مستوى العمل الفني ودقته وأمانته ورسالته، ثم قياس منافعه. ولا ينكر في عصرنا الحاضر مدى تأثير الصورة المرئية في المشاهد، وهي تبعث الخيال بأكثر مما تقيّده.
ولا أحسبُ أن تصوير حمزة - رضي الله عنه - في فيلم الرسالة قد أضرّ بمكانته أو بصورته، بل حفرها في ذاكرة الأجيال، واستدعاها من التاريخ لتحضر في وجدان المشاهد وعقله. وأزعم أن هذا ما حققه مسلسل «عمر» في أذهان الكثيرين. ويكفي أن تقرأ تعليقاتهم على المقاطع والحلقات الموجودة في مواقع التواصل لتتأكد من ذلك، بل تجد الكثيرين منهم يُفرّغ مقاطع من الحوار للعرض والتداول.
* منذ انتهائك من كتابة مسلسل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وبالرغم من انتظار العديد من المتابعين مسلسل سقوط الأندلس؛ لتكتمل رباعية الأندلس، إلا أنك ارتأيت الصمت دراميًّا مؤخرًا. هل صمتُك ردة فعل غير مباشرة تجاه ما جرى في العالم العربي من أحداث وتحولات؟
تواطأت ظروف وعوامل مختلفة على توقفي المؤقت عن الكتابة الدرامية منذ «عمر»، منها أسباب شخصية كالتنقل والسفر المتصل، ومنها أسباب عامة تتعلقُ - كما قلت - بالظروف الموضوعية التي تحيط بنا. ولكن تجدّدَ حماسي في الآونة الأخيرة لاستئنافِ العمل في تأليف السلسلة الأخيرة من الملحمة الأندلسية عن سقوط غرناطة ومحنة المسلمين الموريسكيين الذين مكثوا في غرناطة والأندلس بعد السقوط، ثم تعرضوا للتنصير القسري وأبشع أنواع الاضطهاد والتعذيب على يد محاكم التفتيش سيئة الصيت. وإن شاء الله لا يطول الوقت حتى يتم هذا العمل تأليفًا وإنتاجًا.
* في كتابكم «الشاهد المشهود» أشرتَ إلى ما أسميتَهُ بـ«الاستشراق الذاتي» عند بعض الكتّاب والمفكرين العرب، وقلتَ: «فالكثير من الكتّاب العرب الذين قدموا مراجعات نقدية للعقل الثقافي العربي كانوا يساريين وليبراليين، يتحدثون باسم التقدمية والحريّات، ولم ينتبهوا إلى أن منهجهم في توصيف (العقل العربي الثابت) يرتد إلى الاتجاهات الوضعية الإطلاقية الاختزالية الأكثر رجعية ويمينية في مناهج الدراسات الإنسانية والاجتماعية! ولم يتحرروا من فكرة مركزية الذات الأوروبية وهم يعاينون ثقافتهم، ويعيدون إنتاج المفاهيم المؤسِّسة للخطاب الاستشراقي العنصري!». أليست الحالة النقدية للعقل العربي هي انعكاس عميق لحالة الضعف العربي؟ وأليس الاستعانة بالمركزية الأوروبية نتيجة طبيعية لقوتها مقارنة بضعف الحراك الفلسفي العربي في العصر الحديث؟
لا شك أن ما أ سميته باتجاهات الاستشراق الذاتي هي من نتائج علاقات القوة المختلة بين المركز الغربي المتغلّب والأطراف التابعة، ومن ثم سيطرة الخطابات الغربية، سواء تلك التي تنتمي لأشكال الثقافة الشعبية أو أشكال الثقافة العليا، على العقل الثقافي العربي المعاصر، حتى في تصوّره لذاته الجمعية وهُويته الحضارية. ومن المؤسف أن هذا الوضع أنتج نقيضه المتطرف الذي ينحو إلى الانغلاق على الذات، وإلى الارتداد إلى صورة مثالية مُختلقة لماضي الذات، مدفوعًا بالخوف على هوية مهدّدة. فصرنا بين نقيضين: فإما الاغتراب في حاضر الغير، وإما الاغتراب في ماضي الذات، وكلاهما في الجوهر تقليد واستنساخ، والضائع بينهما هو حاضر الذات الفاعلة المنتجة التي لا تنقطع عن التراث، ولا تنقطع فيه.
ولو نظرنا في المجالات المعرفية المختلفة، منها العلوم الإنسانية، فإننا لا نجد أي إسهام عربي يذكر في إنتاج الاتجاهات النظرية والمنهجية الرئيسة في علم الاجتماع أو الانثروبولوجيا أو الفلسفة أو علم النفس أو النظرية الأدبية والنقدية والعلوم اللسانية، ونحو ذلك.
هذا لا يعني - على كل حال - أن تلك النظريات والمناهج والمواد المعرفية التي يتم إنتاجها في الغرب لا تتمتع بقيمة كونية، ولا تصلح للتطبيق إلا في المجال الغربي الذي أنتجها. ولا ينبغي أن نقع فيما نعيبه على الخطاب الاستشراقي الذي أنتج صورًا ذهنية نمطية مُختلقة للشرق انطلاقاً من علاقات السيطرة والإلحاق، فنعيد إنتاج المنهج نفسه في نظرتنا إلى الغرب. فالغرب - كما الشرق - ليس ظاهرة واحدة متجانسة ثابتة ساكنة، ولا تاريخية. فثمّ خطابات نقدية في الغرب تنقض الخطاب الاستشراقي والمركزية الغربية برؤى فلسفية وسياسية عميقة. وإن بعض أفضل الأعمال النقدية لخطابات المركزية الغربية تم إنتاجه في الغرب نفسه، وتعلمنا منه الكثير. ويكفي أن أشير إلى جهود المفكر إدوارد سعيد الذي انطلق من أفكار الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشال فوكو، وقدم دراسات نقدية عميقة للخطاب الاستشراقي وعلاقة الثقافة الغربية بالامبريالية. كل ما نتطلّع إليه في هذا السياق أن نخرج من حالة التبعية الشاملة لنصبح شركاء في إنتاج المادة المعرفية؛ لتكون جزءًا من الجسم العلمي والأكاديمي والفكري العالمي الحاضر في دوائر إنتاج المعرفة واستهلاكها معًا.
* أثناء كتابتكم السيناريو كيف تتعامل مع تعدد الروايات واختلاف المصادر التاريخية للحدث الواحد؟ هل ذلكم التعدد يثري كاتب السيناريو أم يضعه في مأزق وصف الحقيقة للحدث التاريخي؟
أكرّر القول إن العمل الدرامي التاريخي ذا الطابع الأدبي ليس عرضاً تسجيليًّا لوقائع التاريخ، ولكن ذلك ليس إجازة للتحريف والاختلاق والتزييف بدعوى الإسقاط الفج. على أن تدوين التاريخ ليس عملية بريئة من التحيّز والهوى والتأويل حتى في التوصيف والتعريفات والتسميات. وما علينا إلا أن ننظر في توصيفات واقعنا المعاصر الذي نشهد وقائعه وصراعاته، من خلال وسائط الإعلام والكتابات السياسية والفكرية المختلفة؛ لنرى مدى التضارب والخلاف في الأحكام والأوصاف والتأويلات والتعريفات باختلاف المواقف والرؤى والأغراض.
رواية التاريخ في نهاية المطاف هي سردية لتمثيل الواقع، وليست تصويرًا مطابقًا يتّسمُ بالحيدة التامة والموضوعية المطلقة، وإنما هي نتاج عملية التأويل النشطة للواقع، التي يتوسطها محتوى الوعي وعلاقات القوّة. ولئن قيل: إن المشاهدة حجة الاعتقاد فإن الاعتقاد في المقابل يسهم في توجيه النظر وتشكيل الرؤية! وعلى ذلك فإن الباحث الأكاديمي المعاصر يُخضِع مصادره التاريخية القديمة للتحليل النقدي، وتختلفُ القراءات والتأويلات باختلاف مناهج التحليل والمواقف الفكرية والعقدية، بل أيضًا باختلاف الموقف من الحاضر نفسه؛ فالحاضر يعيد تشكيل صورة الماضي بقدر ما أسهم الماضي في تشكيل الحاضر.
في ضوء ذلك كله فإن على كاتب السرديات الدرامية والأدبية التي تستلهمُ التاريخ أن يقرأ مصادره قراءة نقدية، وأن يعارض بين الروايات المختلفة، وأن يستبطن المسكوت عنه والمغيب من خلال النظر في العلامات والإشارات، ومن خلال تحليل البنية الاجتماعية الثقافية السياسية وطبيعة العلاقات السائدة.
وأعتقد أن تعدد الروايات يخدم في هذا المجال، ويوسّع مساحة التصرف الدرامي دون إخلال بالنسق التاريخي العام، ودون التعسّف في التأويل والإسقاط. وبالنسبة إليّ فإنه إذا استوت الروايات المختلفة في مدى صدقيتها الظاهرة فمن الطبيعي أن أختار منها ما يخدمُ المعالجة الدرامية والتأثير المنشود بقدر أكبر.
* يقول إدوارد سعيد مبينًا أهمية السرد: «فالسيطرة والهيمنة على الأرض لن تكون ممكنة دون هيمنة السرد». إلى أي مدى أسهمت أعمالك التي تناولت القضية الفلسطينية في تعزيز قوة الرواية السردية الفلسطينية للأحداث أمام مدٍّ سرديٍّ قوي، يُنتج سنويًّا من قِبلِ دولة الاحتلال؟
قبل إحدى عشرة سنة، وبمناسبة مرور ستين سنة على النكبة، كتبتُ مقالة طويلة في مجلة «وجهات نظر» التي كانت تصدر في القاهرة، بعنوان: «ستون عامًا على النكبة: صراع المعاني.. صراع الوجود»، بيّنتُ فيها خطورة وأهميّة السرديات في الصراع مع العدو الإسرائيلي. فالعالم لا يتمثل في وعينا إلا من خلال نظم المعاني التي نرى ونتدافع بها. الأسماء على نحو ما هي الأشياء والدّوال هي المدلولات. وتغيّر المعاني يعني تغيّر صورة المدركات، ومن ثم تغير الاستجابات العملية تجاه تحديات الواقع؛ لذا كان رهان العدو على مصادرة الذاكرة وفرض سردياته عن طبيعة الصراع وتاريخه ومآلاته. واستعرضتُ في المقالة التطور الخفي على نظام المعاني المتعلق بالقضية الفلسطينية في الخطابات السياسية العربية، وما يلابس ذلك من المخاطر الوجودية. فالأقوى في العادة هو الأقدر على فرض سردياته ومعانيه، ومن ثم على التحكم في الوعي وتوجيهه. وإذا كان من المهم جدًّا أن نعمل على ترويج سردياتنا ومخاطبة الوعي الإنساني بها مع تفكيك الأساطير المؤسسة للسردية الصهيونية فإن الأهم - في نظري - الآن ترسيخ السردية الفلسطينية في الوعي الفلسطيني والعربي نفسه. فالمفارقة المؤسفة أنه في الوقت الذي يتسع فيه تأثير السردية الفلسطينية في الأوساط العالمية الحقوقية في الوقت الحاضر نجد نفرًا من أبناء جلدتنا يستدخلون السردية الصهيونية، ويعيدون إنتاجها بلا رادع أخلاقي.
لا أستطيع قياس مدى تأثير أعمالي التي تناولت القضية الفلسطينية في تعزيز الرواية السردية الفلسطينية. ولكن ردود الفعل المتواصلة تجاه «التغريبة الفلسطينية» والإقبال المستمر على مشاهدتها، والتفاعل الوجداني الشديد مع أحداثها وشخصياتها، كل ذلك يفيد بأنها أسهمت في حراسة الذاكرة وترسيخها، وفي ردّ القضية إلى أصولها، وإحيائها في وعي الأجيال الجديدة في إطار إنساني ملحمي وواقعي.
* في ديوانك المعنون بـ«قصائد في زمن الفتح» الصادر في عام 1969م قُلتَ: «سأشدُّ الجرحَ في جنبيّ أياماً طويلة... وأغنّي... لكِ يا أحلى العواصف...». بعد مرور هذه الأعوام الطويلة ألا يزال جرح الدكتور وليد سيف مشدودًا، أم أنه التأمَ بنجاحاتك الشخصية اللاحقة؟ وهل أغنيتك اليوم هي ذاتها كما كانت في تلكم الحقبة الزمنية؟
نعم، ما زال الجرح مشدودًا إلى جنبيّ وقلبي وروحي، بل هو الآن أكثر اتساعًا وعمقًا ونزفًا من أي وقت مضى. وفضلًا عن ذلك فقد تناسل جروحًا بعد أن تكاثرت السكاكين، واسترجع الجريح صوت المتنبي يصيح في الأرض اليباب:
وسوى الروم من ورائك رومٌ
فعلى أي جانـبيك تـميلُ
الجرح الفلسطيني شرط وجودي عندي، عليه أحيا، وعليه أموت. وكل الإنجازات والنجاحات الشخصية لا تعدل قطرة دم واحدة نازفة منه! فهو هُويتي التي أتعرّفُ بها إلى أن يخرج الغزاة من لحمنا ودمنا وقمحنا وأرضنا، أو يرث الله الأرض ومَن عليها.
* في العصر الحديث، العالم العربي مرّ بالعديد من الأحداث، هل يمكنُ القبض على رؤية تاريخية متماسكة لتلكم الأحداث، بالرغم من تشابكها وتعقيداتها وتقديمها تلفزيونيًّا؟
نعم، يمكن القبض على رؤية تاريخية تقاربُ الواقع المعاصر بتعقيداته والتباساته بقدر ما يتحلّى الباحث بالنزاهة والشجاعة النقدية والمنهجية العلميّة.
أقول «تُقاربُ»، ولا أقول «تُطابقُ»، وأقول «النزاهة» بدلاً من ادعاء الموضوعية المطلقة التي يتوسلها البعض لإضفاء قيمة حقّية صدقية مطلقة على مقارباتهم، ومن ثم إقصاء المقاربات والاجتهادات الأخرى.
فالواقع الموضوعي لا ينعكس على وعينا على نحو آلي مباشر ومطابق، وإلا لما اختلف الناس في الرؤية والتوصيف.
وإنما تتوسط بين الواقع الخارجي ووعينا به جملة من العوامل، مثل محتوى الوعي ومنهج التأويل والمواقف الفكرية والعقديّة والسياسيّة، فضلاً عن المصالح والتحيّزات المختلفة في إطار بنية القوة وعلاقاتها؛ ولذلك كانت الرواية التاريخية سرديّات متدافعة، تتقاطع في جوانب، وتتخالف في جوانب أخرى. والذي يفرض سرديّته يتمّلك التاريخ ويشيده على هيئته. ذلك من شقاء الوعي وقدرته في الوقت نفسه. وهو يرتدّ أخيرًا إلى سنة التدافع. وبين الاجتهاد والاجتهاد يمكن أن نقارب الحقيقة، وننتصرُ لها وبها، ونستحضرُ الغائب أو المُغيّب، ونمنحه صوتًا.
* هناك بعض الأصوات في الثقافة العربية، تشبّه وتقارن بين حالة التخلف في العصور الوسطى بأوروبا وحالة التخلف الآنية بالشرق الأوسط، بالرغم من اختلاف الجغرافيا والتاريخ المتراكم بين المنطقتين.. هل الشرق الأوسط يعد حالة استثنائية تاريخية؟
لا تصحّ المقارنة في رأيي؛ إذ لا تتماثل السياقات والشروط التاريخية للمجتمعات المختلفة. يكفي أن أشير هنا إلى أن مجتمع العصور الوسطى الأوروبية قد تشكّل في إطار شروطه الذاتية التاريخية في المقام الأول. أما تخلفنا الراهن فيرتدّ إلى عوامل ذاتية وأخرى خارجية محكومة بعوامل التبعية للمركز الغربي في إطار نظام عالمي مترابط، يعتمد بعضه على بعض، وتتوزّعُ فيه الوظائف وفقًا لعلاقات القوة المختلة في الهيكلِ الدوليّ. ولا يتسع المقام هنا إلى استعراض جذور التخلف الذاتي، ولكني أحيل القارئ إلى الفصل الذي أفردته لهذا الموضوع في كتابي «الشاهد المشهود»، بعنوان: «كنّا ما سوف نكون: سيرة الانحطاط قضيّة شخصية». أما العلاقة المركبة الملتبسة مع الغرب فقد عالجتها في فصل آخر من الكتاب نفسه، بعنوان: «السفر إلى حاضر الغير.. وماضي الذات».
* من يتأمّل معظم المعالجات الدرامية التاريخية التي قدمها الدكتور وليد سيف سيجد أنها تصبّ في متن الإرث التاريخي للثقافة العربية. ما السبب في ابتعادك عن تناول تاريخ المهمشين في الثقافةِ العربية؟
لا أتفقُ تمامًا مع القول إن معالجاتي الدرامية كانت تصبُّ في متنِ الإرث التاريخي للثقافة العربية. وأكرّرُ القول إن أعمالي الدرامية التاريخية لم تكن مجرد سرد تسجيلي لوقائع التاريخ، وإنما هي أعمال درامية أدبية سردية، استلهمت المادة التاريخية المخصوصة، ومن خلال الرؤية الفكرية والمعالجة الفنية اجتهدتُّ أن تقدم خطابًا إنسانيًّا، يتجاوز الظرفي الخاص إلى جوانب في الشرط الإنساني وأسئلة الواقع الراهن. وعلى هذا استقبلها المشاهدون، وتفاعلوا معها، وتداولوا الكثير من مقاطعها في سياق تفاعلهم مع واقعهم الذاتي والعام.
وتلكم هي غاية الأعمال الأدبية التاريخية، وقيمتها الإنسانية والفنية المستمرة، كما هو الحال مع مسرحيات شكسبير التي تناولت شخصيات من التاريخ الانجليزي، وكذلك روايات أمين معلوف في الحاضر.
والأعمال التي تخاطب أسئلة إنسانية عامة تستحضرُ بطبيعتها المهمشين والمظلومين ولو على نحو مضمر، حتى لو كانت شخصياتها الرئيسة من أعلام التاريخ المعروفين.
وعلى سبيل المثال، فإن معالجة الاستبداد والمستبدين - وهي حاضرة بقوة في أعمالي - تمثل انتصاراً وانحيازًا للمهمشين والمظلومين.
ومع ذلك فإنني لم أهمل تصوير الشرائح الاجتماعية العامة في أعمالي، ومن ذلك مسلسل «عمر» وربيع قرطبة وملوك الطوائف، وأكثر من ذلك «التغريبة الفلسطينية» بطبيعة الحال. وبعثت شخصية «بدر»، مولى عبدالرحمن الداخل، في صقر قريش، من غياهب التاريخ، وأبرزتُ دوره الاستثنائي في مسيرة الداخل وصعوده وتمكنه، كما لم يفعل كاتب من قبل.
* كيف تصف اللحظة الثقافية الراهنة في العالم العربي؟
يؤسفني أن أقول إن المشهد الثقافي العربي الراهن كئيب إلا من استثناءات محدودة؛ إذ يفتقرُ في جلّه إلى الإبداع والأصالة، مع تغلّب الثقافة الاستهلاكية وهيمنة العولمة الثقافية التي يتم إنتاجها في المركز الغربي، ولاسيّما في أشكال الثقافة الشعبية. ولا يزال مشهدنا الثقافي موزعًا بين «أمْثَلة» الماضي من جهة، والاستلاب والتغريب من جهة أخرى. كما يجري استتباع المجتمع الثقافي لمراكز الهيمنة المحلية والإقليمية والدولية، وإلحاق المثقف بالسلطة، مع تسليع الثقافة؛ ما يعني تكييف السلعة الثقافية مع السوق المستهلك، ومَن يتحكم بآلياته، ويمتلك مفاتيح البذل والمنع فيه! ومع ذلك تبقى هنالك نماذج مشرقة، لعلّها أن تؤسس لمستقبل ثقافي أكثر نبلاً وإبداعًا وشجاعة واستقلالاً.
* كيف تصف تجربة الشركات الإنتاجية العالمية التي بدأت تُنتجُ أعمالاً عابرة للحدود مثل نتفليكس التي أنتجت بعض الأعمال العربية مؤخرًا؟ هل يمكن أن تكون حلاً للهروب من العوائق الإنتاجية وما يصحبها من معضلات أخرى في العالم العربي؟
دخول الشركات الإنتاجية العالمية على خط إنتاج أعمال عربية يمكن أن يوفر مساحة مضافة خارج المحدّدات والعوائق المحليّة، ولكنها - في رأيي - لا يمكن أن تقدم بديلاً شاملاً. وعلينا أن نذكر أن هذه المؤسسات العالمية لها أيضًا اشتراطاتها ومحدداتها من حيث الموضوعات والمعالجات والغايات والوجهات السياسيّة. وهي أيضًا تكيّف سلعتها مع محدّدات السوق والقوى المهيمنة. وحتى في مراكز الإنتاج الغربية الخالصة فإن الحركة الصهيونية مثلًا تعمل بقوة على محاصرة الأعمال التي تراها ضارة بسياساتها وأهدافها، وتعمل على شيطنة أصحابها، هذا إلى جانب استثمارها الضخم في مجالات الإعلام والإنتاج لخدمة أغراضها.
* بعد تجربتكم العميقة في كتابةِ السيناريو التاريخي، هل يمكن أن نرى كتابًا يحوي تجربتكم، ويتناول منهجيتكم في كتابة السيناريو التاريخي؛ كي يكون مرجعًا ورافدًا للمكتبة للعربية في المستقبل؟
بصراحة، ليس عندي خطة في الوقت الحاضر لتأليف كتاب مستقل يشرح تجربتي ومنهجي في كتابة الدراما التاريخية، ولكن من يدري؟ ربّما بادرتُ إلى ذلك في وقت ما. وعلى أي حال، فقد أفردت في كتابي: «الشاهدُ المشهود» فصلًا كاملاً عن تجربتي الدرامية ومنهجي فيها، بعنوان: «حياة مع الدراما»، فأحيل القارئ إليه في الوقت الحاضر؛ لعلّه يغني إلى حد ما.
* يقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل في كتابه: «غزو السعادة»: «أن تكون بدون بعض الأشياء التي أردتها ذلك جزءٌ لا غنى عنه من السعادة..». بعد هذا العمر كيف تنظر للأشياء التي أردتها ولم تتحقق بعد؟!
أما على صعيد القضايا العامة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والتحرّر والتمكين والنهضة والعدل، فلا عزاء مع الحصاد المرّ والخيبات والانكسارات والردّة. أما على الصعيد الشخصي فيصح القول إلى حد كبير؛ فالذي طلبناه ولم ندركه هو جزء من سيرة أحدنا، وأسهم على نحو ما في تشكيل وعينا، وربّما دفعنا إلى مسارات جديدة مثمرة. والرغبات التي لم تتحقق تبقى ماثلة حية ومحفزة أحيانًا. ورُبّ غاية طلبناها وسعينا إليها سعينا بلا طائل، فإذا مضت بنا التجارب، وضربنا في الزمان والمكان، ونظرنا في المآلات، شكرنا الله أن صرفَ عنا تلك المطالب، وتبيّن لنا الخير في صرفها.
و اسمحوا لي أن أستدعي في هذا السياق المقطع الآتي من مقدمة كتابي «الشاهد المشهود»:
..«فيبدو أن من طبيعة الشرط الإنساني أن تبقى السعادة الكاملة والرضا التام أفقًا يسعى إليه الإنسان، فلا هو يبلغه، ولا هو يرضى بدونه. في مرحلة من العمر تحدد طموحاتك وغاياتك، وتصوغ آمالك وأحلامك، ثم إذا كنت محظوظًا وبلغتها برزت لك منغصات وتحديات جديدة، ونشأت لديك مطالب وغايات جديدة. فكأن تحقيق غاية ما يخلق شرط الإمكان لتخلّق غاية أو غايات أخرى، دونها عوائق وتحديات من نوع مختلف. فلا تكاد تروي ظمأً من ماء حتى يعاودك الظمأ إلى ماء من نبع آخر، أو كأن المرتفع الذي ارتقيته قد مكّنك من أن ترى مساحات جديدة عبر المدى كانت مجهولة عندك، فهي تغريك الآن بمتابعة السعي والسفر إلى الحدود الجديدة. ولكن دونك وإياها بِيدٌ، خلفها بيد وأخطار متربّصة، وتكاليف جديدة من جسمك ونفسك».
* المساحة الأخيرة لك.. فقل ما شئت دكتورنا العزيز؟
في هذه المساحة الأخيرة الحرّة أحب أن أتقمص صوت الناسك الواعظ الصارخ في البريّة، فأقول: طوبى لمن قدّم مغارم العقل على مغانم الجهل، وتكاليف الصدق على مكاسب الكذب والتضليل والنفاق، وأبلى جسمه في صيانة روحه، كما ينبغي للنفوس الكبار!